ترافقت حروب العرب مع إسرائيل على الدوام مع نزاعات أهلية كانت سابقة عليها أحيانا وكانت في كل الحالات تالية لها.لقد انفجرت حرب العام 1948 وسط أجواء عربية مشحونة بالتنافس والتنازع الداخلي بين ملوك كل منهم يدعي أحقيته في وراثة التركة العثمانية وفي ظل سيطرة استعمارية مباشرة على الشطر الأكبر من العالم العربي.كان من الطبيعي أن تستكمل هذه النزاعات بعد هزيمة تاريخية اصطلح على تسميتها ب«النكبة» وهي الوصف المناسب لضياع فلسطين ونشؤ دولة إسرائيل.وربما كان مفهوما أن يدفع زعماء عرب ثمنا باهظا لهزيمة بهذا الحجم خصوصا في مصر الدولة العربية الأكبر والاهم في العالم العربي. وكان أيضا من الطبيعي أن تتسارع الخطى للتحرر من الاستعمار القديم بوصفه شريكا في تأسيس الدولة العبرية. بيد أن السنوات الفاصلة بين النكبة وحرب العام 1967 لم تكن سنوات حشد واستعداد للتحرير فحسب بل سنوات نزاع حاد ومزايدة وضغوط وتنافس قاتل بين الدول العربية الفاعلة وسنوات استعانة بالأجانب ضد بعضنا البعض.يدل على ذلك اضطرار المملكة الأردنية الهاشمية لتوقيع ميثاق دفاعي لجبهة عسكرية واحدة مع مصر عشية الحرب فيما سوريا بقيادة مجموعة صلاح جديد الراديكالية لم تكف عن خوض نزاع ضاغط مع مصر الناصرية طيلة الشهور التي سبقت الحرب فكانت حرب حزيران من العام المذكور هزيمة عربية مساوية للنكبة بعد أن غنمت إسرائيل أرضا عربية تفوق مساحتها بأضعاف مضاعفة أما الهزيمة نفسها فكانت مدوية للعرب وجيوشهم المفككة والمشتتة في الصحاري والهضاب والوديان. ولئن أدى حجم الهزيمة إلى تراجع حدة النزاعات (العربية- العربية) فإن انبثاق المقاومة الفلسطينية وانتشارها على حدود دول المجابهة أو الطوق سيؤدي إلى حروب أهلية ونزاعات مسلحة في دول لم تتمكن من مواجهة الضغوط الناجمة عن العمل الفلسطيني المسلح والمشروع ذلك أن الشعب الذي انتظر حرب حزيران يونيو للعودة إلى أرضه أكتشف أن ما تبقى منها في غزة والضفة الغربية قد ضاع مجددا وان عليه أن يمسك بزمام قضيته «شاء من شاء وأبى من أبى» على ما كان يردد الرئيس الراحل ياسر عرفات وكان لهذا الإصرار ثمناً باهظاً تمثل بحربين أهليتين في الأردن ولبنان في الفترة الفاصلة بين حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر عام 1973 . وفي حين كانت حرب «يوم الغفران» بحسب التسمية الصهيونية الأكثر تنسيقا وإعدادا بين الدول العربية حيث استخدم فيها سلاح النفط للمرة الأولى فان نتائجها الملتبسة أدت إلى المزيد من التنازع (العربي-العربي) والاتهامات المتبادلة بين أطراف الحرب وبدلا من أن يبني العرب على الانتصار الجزئي والصدمة الإسرائيلية فإذا بهم يفترقون بعد اتفاقات كامب ديفيد وزيارة الرئيس السادات الشهيرة للقدس وكان أن عزلوا مصر الدولة العربية المحورية في جغرافيتهم السياسية ومع هذه العزلة انفلتت النزعات (العربية العربية) من عقالها فازدادت حرب الصحراء المغربية اضطراما معها الحرب الأهلية في لبنان ومن بعد الحرب العراقية الإيرانية والنزعات الشطرية اليمنية... الخ وسط هذه النزاعات وقع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 واحتل الصهاينة بيروت أول عاصمة عربية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. كان على «المقاومة اللبنانية» في صيغتها التعددية الأولى (1982 1988 ) أن تبذل جهودا جبارة لحمل إسرائيل على الجلاء عن القسم الأكبر من الأراضي اللبنانية المحتلة لكن تحرير الأرض ما خلا مزارع شبعا سيتحقق على يد المقاومة الحصرية التي تعهدها حزب الله بعد أن تمكنت سوريا من تطهير لبنان من الحرب الأهلية والإمساك بمفاصل السلطة في هذا البلد ليتبين أن انتصار العام 2000 في جنوب لبنان مدين بجزء أساسي منه إلى ضبط النزاعات الأهلية ومن ثم لالتفاف الشعب اللبناني حول المقاومة اختيارا أو اضطرارا بحسب فئاته وتياراته السياسية. هنا أيضا لم يتحول انتصار أيار مايو التاريخي المتمثل بحمل إسرائيل على الجلاء بالقوة وللمرة الأولى عن ارض عربية لم يتحول إلى رافعة وطنية وعربية جديرة بالالتفاف والاحتضان والبناء عليها محلياً وعربياً خصوصاً أن أراض لبنانية مازالت تحت الاحتلال في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا فضلا عن مطالب أخرى مكملة هذا إذا أردنا استبعاد القضية الفلسطينية وتأثيرها على لبنان إذن لم يتحول الانتصار إلى رافعة بل صار موضوعا خلافيا في الداخل والمحيط العربي. داخليا كان يقال للمقاومين: لقد حررنا الأرض. لم نعد بحاجة لسلاحكم.لا يمكن للدولة اللبنانية أن تنهض إذا ما بقي السلاح بأيديكم. المقاومة جزء من محور إيراني - سوري لا لأغراض لبنانية للمقاومة.لبنان لا يستطيع تحمل نتائج المقاومة منفردا فيما الجبهات العربية صامتة. على لبنان أن يخرج من الصراع العربي الإسرائيلي. المقاومة ذراع إيرانية للدفاع عن الملف النووي الإيراني. إسرائيل ستدمر بلدنا من عقابا على مقاومتنا. نحن بلد سياحي لا يستطيع تحمل تبعات صراع دائم مع إسرائيل.... الخ. كانت هذه الاتهامات الظالمة في كثير منها وما زالت تهمل أمراً أساسياً هو أن سيادة لبنان لا تتم ولن تتم على أرضه وفرصه الاقتصادية دون وسائل دفاعية مناسبة وهو يقع على حدود دولة تحتفظ بالقوة العسكرية الرابعة في العالم.وكانت وما زالت تهمل أمرا أساسيا آخر هو أن المقاومة محصورة في جنوب البلاد الذي تحمل عبء الصراع مع إسرائيل خلال أكثر من ربع قرن ومن حق أهله أن يطمأنوا إلى مستقبلهم على حدود الدولة العبرية ليس بواسطة الاتفاقات والتعهدات الدولية التي لم تحم أحدا ومن لا يصدق فليستشر البولونيين والفلسطينيين وغيرهم من الشعوب التي التهمت أراضيها تحت انف المواثيق والمعاهدات الدولية. هكذا يظهر مجددا أن الصراع مع إسرائيل في حالتي النصر والهزيمة لم ولا يستدعي اصطفافا يحمي الانتصار أو يعد العدة الناجحة لثأر من هزيمة نكراء ولعل السجال اللبناني اللبناني والعربي اللبناني حول حرب الثلاثة وثلاثين يوما الأخيرة لا يخرج عن القاعدة المشار إليها رغم تخبط العدو وانكشافه الاستراتيجي الصريح والمخيف في نظر الإسرائيليين وبأقلام خبرائهم ومحلليهم وتصريحات زعماء بارزين منهم. من الصعب تفسير هذا السجال في خضم النصر اللبناني بل قبل وقف الأعمال الحربية من الصعب تفسيره بعيدا عن ثقافة الهزيمة وعقلية المهزوم التي استقرت في مخيلتنا جراء الهزائم النكراء انتشار الأسطورة الردعية الإسرائيلية المنتشرة في صفوفنا و القائمة على فرضية الجيش الذي لا يقهر.. لا مبالغة بالقول أن الأسابيع والشهور القادمة ستكون مفصلية في مستقبلنا اللبناني والعربي ذلك أننا نقف على مفترق طرق مصيري:فإما أن نضيع الانتصار اللبناني و نقتله بأيدينا وبعقليتنا المهزومة وبثقافة الاحتراب الأهلي والتنازع الداخلي وإما أن يقوى الانتصار نفسه على ثقافتنا السياسية القاصرة والمهزومة ويؤسس لمستقبل لا يجرؤ فيه الصهاينة على الاعتداء على طرف عربي دون دفع ثمن باهظ. مستقبل يطمئن فيه لبنان وبخاصة جنوبه إلى أن الوحش الإسرائيلي الكامن على الحدود لن يتجاوزها تحت طائلة الموت. mfjalloul|@hotmail.com