يروي الأمير اللبناني الدرزي شكيب أرسلان أن الإمام محمد عبده بعث إليه برسالة وصلت إلى صحيفة" الوقائع المصرية" يطرح صاحبها " محمد بسيوني عمران" السؤال التالي: لماذا تخلف المسلمون ولماذا تقدم ( غيرهم ) الغرب؟ وذلك من أجل أن يجيب عليه. لم يكن الأمام النهضوي عاجزا عن الإجابة ولكنه كان يقدر عمق تفكير أرسلان وخبرته المتراكمة جراء العيش والتعرف على العالمين الغربي والإسلامي وبالتالي هو الشخص المؤهل للإجابة عن سؤال القاريء وهو سؤال كان يدور في خلد كثيرين ويعبر عن واقع قاهر مازال قائما حتى يومنا هذا. كان بوسع أرسلان الإجابة عن السؤال بصفحتين أو ثلاثة غير انه توسع في الإجابة إلى حد أن الرد تحول من بعد إلى كتاب يحمل الاسم نفسه.. وعلى الرغم من إنصرام أكثر من ثلاثة أرباع القرن على الجواب الارسلاني عن السؤال فإنه كما الجواب مازال راهنا والمدهش أننا لم نتعظ بأجوبة النهضة التي ينطوي عليها الكتاب بل أننا لم نعره الأهمية التي يستحقها. يعدد شكيب أرسلان أسبابا كثيرة لتخلف المسلمين خارجية وداخلية ويذكر أسبابا مماثلة لتقدم الغرب في الحالتين يشدد على الثقافة ويحمل بقوة على ما يسميه ب "المسلم الجاحد" و "المسلم الجامد" وفي اعتقاده أن الجمود أكثر خطرا من الجحود. فلنتأمل صورة المسلم الجامد كما وردت في النص الارسلاني حرفيا: "المسلم الجامد أشد ضررا من الجاحد وأن كان لا يصدر عن خبث و سوء نية, وإنما يعمل ما يعمله عن جهل وتعصب, فهو يمهد لأعداء المدنية الإسلامية الطريق لمحاربة هذه المدنية محتجين بأن التأخر الذي عليه العالم الإسلامي إنما هو ثمرة تعاليمه, والمسلم الجامد يحارب العلوم الطبيعية و الرياضية و الفلسفية وفنونها وصناعاتها بحجة أنها من علوم الكفار, فحرم على الإسلام ثمرات هذه العلوم ..وليس هذا الذي يريده الله بنا و هو الذي قال: (وعد الله الذين آمنوا منكم الصالحات ليستخلفكم في الأرض)، وقال تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)، وقال تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق ؟ قل هي للذين آمنوا في الحياة خالصة يوم القيامة).. والمسلم الجامد لا يدري أنه بتحريمه للعلوم الكونية قد حبب الكسل إلى كثير من المسلمين و تعليل أي شئ بالقضاء و القدر.. وهذا شأن الكسالى في الدنيا مما دفع الإفرنج بأن يقولوا أن الإسلام دين لا يأمر بالعمل.. لأن "ما هو كائن هو كائن, عمل المخلوق أم لم يعمل ".حتى أن بعض أعداء الإسلام يقولون بأنه دين لا يتماشى مع الرقي العصري وأنه دين ضد المدنية ..والحقيقة غير ذلك تماماً : فالإسلام هو من أصله ثورة على القديم الفاسد وعلى الماضي القبيح . والذين يفهمون الإسلام حق الفهم يرحبون بكل جديد لا يتعارض مع العقيدة . والقرآن هو الذي أخبرنا بقصة سيدنا ابراهيم : (اذ قال لأبيه و قومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، قال لقد كنتم أنتم و آباؤكم في ضلال مبين).. و القرآن الكريم مليء بالحث على العمل و استنهاض الهمم (ووفيت كل نفس ما عملت).. (ووجدوا ما عملوا حاضرا).. (فأصابهم سيئات ما عملوا).. (ولكل درجات مما عملوا و ليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون).. (سيجزون ما كانوا يعملون ).وقوله تعالى : (أولمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثيلها قلتم أنى هذا ؟ قل هو من عند أنفسكم ) فالإسلام دين العمل لا دين الكسل والاتكال على" القدر المجهول " للبشر." هذا جزء يسير من رد شكيب أرسلان على سؤال النهضة المذكور وفي ظني أن الرد الشامل المنطوي في صفحات الكتاب يكتسي أهمية فائقة لكونه يعرض بدقة ليس فقط لاسباب تخلفنا وإنما أيضاً لأنه يظهر تقدم النقاش وعمقه حول هذه المسألة المصيرية في أواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين إذا ما قورن بواقع النقاش الراهن حول المسألة نفسها وكأن ما اتاه أسلافنا هو دائما افضل مما نأتيه. صحيفة "الوقائع المصرية" ينطبق حال صحيفة "الوقائع المصرية" على المثال السابق فهي صحيفة طليعية مصرية قد تكون أفضل من الشطر الاعظم من مطبوعاتنا الراهنة خصوصا في الفترة التي تولى تحريرها الامام النهضوي محمد عبده. ولعل هذا أحد الاستنتاجات التي يستخلصها الزميل الصديق عبده بورجي في مبحث جامعي بعنوان "تاريخ الوقائع المصرية 1828 1882 " اجراه في اطار دراسته في كلية الاعلام في جامعة القاهرة واعادت نشره "مطبوعات سبتمبر في العام 2005 ." ويبرر بورجي موضوع البحث بقوله" إن اختياري للوقائع المصرية كمادة لهذا البحث المتواضع إنما كان مبعثه إدراكي للدور الكبير الذي لعبته هذه الصحيفة في تاريخ مصر وحياة شعبها" وهي صحيفة حكومية تنتقد الحكومة ورجال الدولة نقدا لاذعا يؤرق حياتهم " بل لانها " اقدم صحف الشرق باللغة العربية". ويقف عند "اتساع افق محمد عبده وادراكه الواعي المستنير للصحافة ودورها الرقابي الفعال في كافة الدوايين والمنشآت لضمان تحقيق الخير والرفاهية في الدولة.." ويناقش الباحث نظام الصحيفة الاداري واسلوب التحرير فيها وموقعها التنافسي بين الصحف الاخرى وعلاقتها بحكام مصر من محمد علي إلى الخديوي اسماعيل في تسلسل مكثف ومنهجية رفيعة المستوى تعكس جدية ومهنية وتطلب الاساتذة المشرفين على البحث وهو ما يشير اليه بورجي في تمهيده المنشور في الكتيب. لو كنت صحافيا مصريا لنظرت في حال صحف اليوم في مرآة "الوقائع المصرية " ولطرحت السؤال على نفسي وعلى العاملين في المهنة: أيعقل الرهان على نهضة جديدة عبر صحافة تلعب كل الادوار ما عدا دورها الاصلي في صناعة النهضة والتقدم عبر صناعة الرأي العام النهضوي والتقدمي؟ من المؤسف حقا أن تكون حال "الوقائع المصرية" التي يعرضها الباحث الصديق في كتيبه الصغير " 52 صفحة" افضل من حال صحفنا العربية الراهنة التي تمر ثورة المعلومات عليها مرور الكرام فتلتقط تقنياتها وتهمل سؤالها النهضوي وما يؤسف له أيضا أن يكون سؤال النهضة الارسلاني ارفع شأنا من ركام ثقافتنا السياسية الراهنة وكأننا حكمنا بأن يكون ماضينا الثقافي أفضل على الدوام من حاضرنا