الإثنين , 29 مايو 2006 م يقول انطوي جيدنز «Anthony Giddens» في كتابه «بعيداً عن اليسار واليمين» الذي صدرت ترجمته العربية ضمن سلسلة «عالم المعرفة سنة2002م عدد 286: ص276» هناك العديد من السياقات التي يبرز فيها العنف مهيمناً على الحياة الاجتماعية البشرية ويكاد يكون في ارتباط دائم بهياكل السلطة ويقول «كلاوزفيتش»: «يحتل العنف عادة الطرف المقابل للاقناع إنه وسيلة من بين وسائل أخرى يستعين بها الافراد أوالجماعات أوالدول لفرض ارادتهم على الآخرين.. وتقوم نظرية «كلاوزفيت» في مجال العلاقات بين الأشخاص على فرضية رئىسية مفادها أنه«حين يتوقف الحوار يبدأ العنف». تعود فكرة هذا المقال إلى مرحلة زمنية بعيدة وقد ترددت كثيراً قبل أن أنقل تلك الفكرة إلى الورق وما دفعني إلى ذلك هذه المرة هما سببان اثنان: الأول: مالاحظته من خلال متابعة الصحف الوطنية الرسمية منها أوالحزبية ،حيث يشعر القارئ بأن هناك غياب «ثقافة وأدب الحوار» واستسهال البعض منا لفكرة تجريد الآخر من كل منطق وادعاء الحقيقة المطلقة التي لايأتيها الباطل من بين يديها ولامن خلفها والاغرب من ذلك هو اتهام الآخر كذباً وزوراً بأمور لم يقلها ولم يدعها لنفسه. والثاني: هو إلحاح السؤال القديم/الجديد علي في كل مرة أمسكت فيها قلمي للكتابة وما زال هذا السؤال يؤرق بالي ويقض مضجعي ولا ينفك عقلي يردده بين الفينة والأخرى، وهو نفس التساؤل الذي سبقني إلى طرحه العديد من مفكري هذه الأمة كما فعل الأمير شكيب ارسلان ورفاعة رافع الطهطاوي، والكواكبي ،وخير الدين التونسي وعلي عبدالرزاق ،وغيرهم من مفكري الأمة الاسلامية والسؤال هو: لماذا تقدم الغرب ولماذا تأخرنا نحن «المسلمين»؟ وقد تعددت إجاباتهم عن طبيعة الخلل الذي أصاب هذه الأمة وجعلها تتأخر عن الركب الحضاري لبقية الأمم، كما اختلفت تصوراتهم لآليات الخروج من تلك الوضعية، ولا أظن أنني أستطيع في هذا الحيز الصغير أن استعرض كل تلك الآراء، على الرغم من أهميتها ولكن يكفي أن يعود القارئ إلى كتابات أولئك المفكرين ليعرف الفارق الذي كان يفصل أمتنا عن غيرها من الأمم، منذ بدايات عصر النهضة الأوروبية، وهو الفارق الذي بات اليوم يتسع أكثر فأكثر وإذا انتقلنا من الاطار العام العربي والإسلامي إلى الإطار المحلي «اليمني» فكيف هو حالنا مقارنة بسوانا من الأمم والشعوب الأخرى، وما الحل؟ لست أدعي هنا أنني سأجيب عن هذا السؤال اجابة شافية فلاحجم المقال ولا المقام يسمحان بذلك وقد سبق لي أن تناولت بعضاً من جوانب الموضوع «خاصة في المجال السياسي في مقالات سابقة» ودرستها دراسة مفصلة في موضع آخر. لكنني سأزعم أن جزءاً من الإجابة عنه يكمن في كلمة واحدة هي: «الإتقان» «أو الإبداع».. نعم الإتقان هو العلاج والحل للعديد من أدواتنا ومشاكلنا وفيه يكمن سر «تخلفنا» عن العديد من الأمم والشعوب.. ورب قائل وما علاقة الابداع بمشاكلنا وأي رابط بينه وبين ما نعيشه اليوم في مجتمعنا اليمني؟ بداية دعونا نقر بأن شعوب العالم قد تقدمت لأنها عرفت سر الأسرار وداء الأدواء والمتمثلة في كلمة «إبداع» وهي لا تعني أبداً البدعة، واشتقاقاتها ومرادفاتها التي يعدها ديننا الاسلامي أمراً منكراً«كل بدعة ضلالة» ووظفت نتاجاتها في خدمة بني البشر على اختلاف اجناسهم واصولهم واعراقهم.. وهي النتاجات التي نتمتع بها اليوم بفضل أمثال هؤلاء ثم دعونا نعترف بإن الإبداع ليس مجاله الرياضة فقط، أو الفن، أو التمثيل، أو الكتابة الشعرية ...إلخ، فالإبداع مرتبط بكل جانب من جوانب حياتنا اليومية، وكل واحد منا مطالب أن «يبدع» في مجال عمله، ابتداءً من العامل البسيط، وصولاً إلى أعلى مسؤول في الدولة. فالإبداع هو شرط من شروط التقدم والتنمية لأي أمة من الأمم، ولتراجعوا معي العديد من كتب التاريخ والفلسفة وقصص الشعوب المختلفة لتكتشفوا بأنفسكم هذه الحقيقة، فمنذ اكتشاف قوة البخار في أوروبا والعالم يعيش ثورات متتالية ليس آخرها ثورة التكنولوجيا «وإن كانت أكثرها تأثيراً في التاريخ البشري في عصرنا الراهن». ستجدون أن مراحل التاريخ وتطوراته المتتالية هي نتاج لإبداعات بني البشر، في شتى المجالات وقدرتهم على تطويع معارفهم وعلومهم في سبيل رقي وتقدم أممهم.. في المقابل ما زلنا نحن في أوطاننا نقتات على ما تجتره الذاكرة من أمجاد الأمة الإسلامية التليدة، أو التاريخ اليمني المجيد، ولم نستطع أن ننقل تلك الذكريات إلى أرض الواقع المعاش ليصبح بدوره مجالاً خصباً لذكريات جديدة تفاخر بها الأجيال القادمة، وتتخذها سنداً لإبداعاتها ومحفزاً لها، ولذا فالنتيجة هي هذا التراث المتراكم من الإخفاقات والفشل المتكرر، فما السبب في تتالي تلك الاخفاقات التي تعرفها مجتمعاتنا، وكيف يمكننا أن نتجاوزها في مجتمعنا اليمني؟ جزء من الإجابة عن ذلك التساؤل المشروع يمكن التماسه في الحقيقة التي نلمسها اليوم من غياب للحوار وتفشي عوامل الصراع والعنف والتأزيم السياسي، حيث تعيش مجتمعاتنا موجة متزايدة ومتصاعدة من الصراع والكراهية التي تسود بين الجماعات والفئات الاجتماعية المختلفة، وقد تصل هذه الموجة إلى حد التصريح باستخدام العنف مع الآخرين، لمجرد الاختلاف في الآراء أو التوجهات السياسية، إن لم نقل إلى استخدامه فعلاً كما يحدث اليوم بين الفئات المتصارعة في العديد من المجتمعات العربية والإسلامية مثلاً: ما يجرى في العراق، الجزائر، الصومال، لبنان، فلسطين، والباكستان، وأفغانستان، وغيرها صحيح أن البشرية قد عرفت منذ القدم العديد من الاتجاهات السلبية المتمثلة في التعصب وانعدام الحوار، مما شكل أرضية خصبة لحلقات من الصراع السياسي التي لم تتوقف، وبالتالي فالعنف لم يكن ابداً شيئاً جديداً على البشر ولا على المجتمعات، لكن الجديد اليوم هو أن العالم يعيش موجة حادة من العنف العرقي والطائفي داخل المجتمعات نفسها التي تكون نفس الدولة. وهذه الظروف وغيرها لا يمكن أن تخلق أبداً مناخات صالحة للإبداع أو التخليق داخل مجتمعاتنا، بل على العكس هي كابحة لكل إبداع أو إنجاز ومعيقة لأية تنمية، ولذلك قد لانعدو الحقيقة كثيراً عندما نقول: إن مجتمعنا اليمني لاتتوفر في بنيته الثقافية أو المجتمعية الشروط الحقيقية لأي إصلاح سياسي حقيقي، أو الشروط المسبقة للديمقراطية التي وجدت في المجتمعات الغربية، والسؤال هنا: من أين نبدأ؟ قد يكون الحوار بين الأطراف السياسية المتنازعة هو البداية لتهيئة المناخات الإيجابية للقبول المتبادل، نعم الحوار جزء من الحل، وللحوار، في اصطلاح علماء اللغة والتفسير كما يشير البعض معان كثيرة وإن استوت في الإجمال، على سياق واحد «حاوره محاورة وحواراً»، فالمحاورة هي المجاوبة، أو مراجعة النطق والكلام في المخاطبة والتحاور والتجاوب لذلك كان لا بد في الحوار من وجود طرفين: متكلم ومخاطب يتبادلان الدور، فحيناً يكون المتكلم مرسلاً للكلام وحيناً متلقياً له، أي يكون المتكلم مخاطباً حين يصمت ليسمع كلام نظيره، وهكذا يدور الكلام بين طرفين في إطار حلقة تبادلية يكشف كل منهما عما لديه من أفكار، فيتشكل جراء ذلك مايمكن أن نسميه بالخطاب المشترك الذي تستولده القضية المتحاور بصدها فالحوار بهذا المعنى هو تبادل أفكار بين فريقين أو أكثر في إطار موضوع ما حول قضية ما ،بغية الاتفاق على صيغة حل أواتفاق أوتسوية في شأن القضية التي هي مدار الحوار. بداية لست مع من يقول: إن بامكان مجتمعنا اليمني حرق المراحل، وتجاوز الواقع المعاش بكل مافيه من نقائص، والبدء من النقطة التي وصل إليها الغرب في مجال الممارسات السياسية الديمقراطية ،ولو اقتضى الحال التحالف مع هذا الطرف الدولي أو ذاك تحت شعار المكيافيللية الجديدة «غاية الاصلاح السياسي تبرر الاستعانة بالاجنبي» ولست كذلك مع من ينادون بعودتنا إلى الماضي القريب أي اعادة النظام الملكي الوراثي أوالبدعة الجديدة «الملكية الدستورية» أولاً: لأن عجلة التاريخ لا تعود إلى الخلف أبداً. وثانياً: لأن في ذلك تنكراً وإنكاراً لكل ما قدمته الحركة الوطنية اليمنية من تضحيات ومن دماء زكية سالت على تربة اليمن الطاهرة لتثبيت النظام الجمهوري وإقامة الدولة اليمنية الموحدة، لكنني مع فتح باب الحوار بين كافة الأطراف السياسية المكونة لكل الأطياف والالوان السياسية والحزبية في مجتمعنا اليمني للتحاور حول قضايا الإصلاح السياسي في اليمن على أساس النقاط التالية: 1 الانطلاق من قاعدة أساسية فحواها أن ما يصلح لمجتمعات أخرى ليس نافعاً بالضرورة لمجتمعنا اليمني، فالمجتمع اليمني له بنية اجتماعية وثقافية تختلف عن الكثير من المجتمعات العربية والغربية، وممانعات الإصلاح السياسي في مجتمعنا أكبر مما هي عليه في مجتمعات أخرى. 2 الإيمان بأن «الآخر» يملك أيضاً جزءاً من الحقيقة دوماً فليس بامكان أي كائن بشري مهما برع وأياً كانت درجة علمه وثقافته أن يدعي امتلاكه لوحده كل الحقيقة فما تراه صواباً قد يجده الطرف الآخر خطأ والعكس صحيح، ويصدق هذا الأمر في كل القضايا الخلافية أو الثنائيات التي يحفل بها الخطاب السياسي للأطراف المتصارعة على سبيل المثال لا الحصر: الصواب/الخطأ، الحوار/العنف، الإرهاب/المقاومة، حقوق الانسان في إلاسلام/الغرب، الديمقراطية/الشورى، الإصلاح السياسي التدريجي/الثوري. 3 البدء من تقييم التجربة اليمنية خلال السنوات الماضية لتحديد مصادر النجاحات وأسباب الاخفاقات إن وجدت، فالتجربة اليمنية في مجال الممارسة الديمقراطية ليست سلبية بالكامل، والهامش الديمقراطي في مجتمعنا اليمني أكبر مما كان وقد أتاح لجميع القوى السياسية التعبير عن وجودها في منابرها وصحفها ومؤتمراتها وإن شاب هذه التجربة بعض النقائص فالجميع مسئول عنها دون استثناء وإن ادعى البعض براءته من تلك الممارسات. 4 الاعتراف بحقيقة وجود اطراف داخل مختلف القوى السياسية المتحاورة ليس من مصلحتها قيام أي اصلاح سياسي قد يحد من امتيازاتها ومواقعها. 5 الانطلاق من احترام الثوابت السياسية والوطنية التي تقوم عليها الدولة اليمنية: الدين الإسلامي، الوحدة الجمهورية، وصيانة استقلال الدولة اليمنية، باعتبارها منظومة قيمة وثقافية واحدة لا تتجزأ أو تتشظى. 6 الإقرار بحقيقة أن التجربة اليمنية أفضل حالاً مقارنة بالعديد من التجارب العربية ،وعليكم بالمقارنة دون مسبقات أو أحكام، صحيح أن الجميع سواء في السلطة أو المعارضة يتمنون أن يكون الوضع أفضل مما هو عليه الآن، وهذه طبيعة النفس البشرية التي تتمنى دائماً الشيء الذي ليس في متناولها ولكن هل يمكن تحقيق تلك الأوضاع في ظل سريان قانون «حوار الطرشان». للحديث بقية عن أدب الحوار وأساليب التحاور. - أستاذ العلوم السياسية المساعد جامعة إب