يصعب على المراقب العربي أن ينسب أزمة الخبز والغذاء عموما الى أسباب محلية في العالم العربي طالما أن هذه الازمة تضرب العديد من دول العالم وطالما أن أسبابها تناقش على مستوى المعمورة وليس في نطاق واحد من أرجائها. أما الاسباب فهي متنوعة ومن بينها زيادة سكان العالم مع بقاء مستوى الانتاج الغذائي على حاله وانتاج الذرة الصناعي للمحروقات بدلا من الاستهلاك الغذائي الامر الذي أدى الى تقليص المساحات الزراعية المخصصة للغذاء وتقليص الاستثمارات التابعة. وهناك ايضا النقص في تخزين الحبوب عالميا بالقياس الى ما سبق. تغيير العادات الغذائية لدى بعض الشعوب وخصوصا في افريقيا السوداء حيث لم يكن الأرز مصدرا أساسيا للغذاء وأصبح اليوم احد مصادر الغذاء الاساسية. ناهيك عن العوامل البيئية وبخاصة الاعاصير والجفاف ومواسم الامطار واتساع ثقب الأوزون ومن بين الاسباب أيضا زيادة سكان المدن في الدول المليارية في الهند والصين مع ما يعنيه ذلك من زيادة الطلب على الأغذية والحبوب بخاصة كالأرز والقمح والذرة واللحوم ذلك ان ساكن الريف يكتفي في هذه الدول بوجبة واحدة من اللحوم أسبوعيا في حين أن ساكن المدينة يتناول وجبتين إلى ثلاثة في حين يتناول ساكن المدينة في الغرب ستة الى سبع وجبات من اللحوم ويجب ألا يستهان بهذا النوع من الاستهلاك الذي يضغط على القطاع الزراعي لجهة توفير علف الحيوانات الداجنة هذا حتى لا نتحدث عن النظام المالي العالمي وبورصات الاغذية والرساميل المتوحشة التي لا تقيدها قيم اخلاقية او قوانين رادعة فان اقتضى توسعها تصحير بعض القطاعات تصحرت . واذا كان صحيحا أن أزمة الغذاء التي نعيشها في عالمنا العربي ناجمة عن اضطراب أسواق الغذاء العالمية والظروف الانتاجية المختلفة فالصحيح ايضا اننا نتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية لناحية غياب السياسات الوقائية والتخطيطية سواء في فضائنا العربي الواسع أو في معظم الدول العربية كل على حدة. يستدعي التخطيط الغذائي الوقائي تفكيراً استراتيجيا على مدى بعيد بهدف توفير الأمن الغذائي العربي وبالتالي مواجهة الازمات الغذائية الدورية وتجنب الخضوع لنتائجها الماثلة في الجوع والاضطرابات الاجتماعية واخضاع الموازنات لمواجهة الحاجات الآنية الضاغطة على حساب المشاريع الأساسية وبالتالي التسبب في خلل اقتصادي بنيوي من الصعب حصر آثاره مسبقا. ولعل التفكير الاستراتيجي في مجال الأمن الغذائي العربي عموما أو على صعيد كل دولة على حدة يتمحور حول العناصر التالية: 1 توفير الطاقة اللازمة والعالم العربي يفيض بمصادر الطاقة. 2 منع استيراد السلع المستهدفة كليا أو جزئيا لفترة زمنية محددة واطلاق مشاريع زراعية مواكبة تتيح محفزات للمزارعين والمستثمرين وضمانات رسمية. 3 تخصيص مناطق زراعية استراتيجية في البلدان العربية ذات التقاليد الزراعية المعروفة . 4 توفير التكنولوجيا الضرورية في مجالات الفلاحة و الري والأسمدة و غنى التربة .. الخ. 5 اعتماد مراكز تخزين غذائي توفر احتياط لعام او لعامين وفقا لحسابات دقيقة في الانتاج والاستهلاك. 6 توفير شبكة مواصلات ميسرة بين مراكز الانتاج والاستهلاك. 7 تشكيل حلقة واسعة من الخبراء في حركة الأسواق الغذائية العالمية إنتاجا واستهلاكا. 8 نشر ثقافة الأمن الغذائي في أوساط الرأي العام حتى يصبح مهيئا لتحمل الظروف الطارئة وتفضيل السلع المحلية على المستوردة. وهنا من المفيد الاشارة الى ان المستهلك الياباني يعمد أحيانا الى دفع كلفة استهلاك الانتاج المحلي مضاعفا بالقياس الى الاسعار العالمية وذلك من اجل ضمان الأمن الغذائي الوطني على المدى الطويل. الثابت ان مجمل هذه الشروط متوفرة في العالم العربي ما خلا الارادة السياسية لدى اصحاب القرار وهي الاساس في هذا المشروع وفي غيره ولعل ظروف الازمة الحالية تؤدي إلى فتح النقاش حول هذا الموضوع والقاء أضواء كاشفة على ضرورته الحيوية عل ذلك يدفع نحو تكوين وعي وطني وقومي غذائي لدى الرأي العام يساهم بدوره في حمل اصحاب القرار على تبني المشروع المذكور والمباشرة بتطبيقه. في هذا المجال ربما يتوجب لفت الانتباه الى الشعار العربي الشهير حول السودان بوصفه « سلة الغذاء الطبيعية للعالم العربي» فهذا البلد يمكنه اذا ما توفرت الارادة السياسية العربية أن يصبح بالفعل مخزن المؤن الاساسي للعرب وذلك ليس وفق الشروط الخيرية وانما بحسب الشروط الرأسمالية ووفق قواعد اقتصاد السوق. فالاستثمار الزراعي العربي في هذا البلد مربح على كل صعيد لناحية الارض والري والدورة الزراعية والخبرة التقليدية واليد العاملة الرخيصة والقرب من الاسواق ومن المؤسف في هذا الصدد ان يحتاج المصري للخبز في حين يعيش في بلد زراعي تقليدي من جهة ويعيش من جهة أخرى على حدود بلد يعتبر طبيعيا بمثابة خزان للغذاء العربي. ليست الاشارة الى السودان من باب التضامن العربي على أهميته وضرورته وانما من باب السير على خطى غيرنا في هذا المضمار فها هي اليابان تستثمر في بلدان زراعية مساحات واسعة من الاراضي لتوفير االغذاء الضروري لليابانيين فلماذا لا يستثمر عرب الثروة في السودان بالمنطق نفسه اذا كانوا يأنفون من شعارات التضامن العربي ويخشون منها؟ أغلب الظن ان المشروع اليمني القاضي باستثمار مساحات زراعية سودانية يسير في الاتجاه الصحيح خصوصا أنه يقوم على التشارك بين القطاعين العام والخاص وأكاد اجزم ان نجاح هذا المشروع لن يكون مفيدا لليمن والسودان فحسب وانما للعرب اجمعين لانه سيفتح الأعين على حل ميسر لازمة الغذاء العربية وسيفتح الطريق واسعا أمام مشاريع مماثلة تأتي بالفائدة على السودان وعلى المستثمرين في انتاج الحبوب والزراعات التصنيعية كقصب السكر والشمندر السكري ناهيك عن تربية المواشي والطيور وغيرها. ليست ازمة الغذاء في العالم العربي قدرا محتوما إنها في الاصل ازمة سوء تدبير وسوء تخطيط وتفكير آني ونقص كبير في الارادة السياسية. بعبارة أخرى إنها أزمة عقول عربية مازا لت «بعلية» بالقياس الى عقول العصر «المروية».