أعلنت الإدارة الأمريكية عن تخصيص 700 مليار دولار لحل المشاكل العويصة التي تعاني منها بعض المؤسسات المالية الأمريكية من أجل تفادي انهيار مالي عالمي شبيه بانهيار العام 1929 .وعلى الرغم من استقبال البورصات العالمية هذا الإعلان استقبالاً حسناً فإن المضاربين يبدون تحفظاً إزاء التعقيدات التي تواجه هذا الاجراء في الكونغرس ناهيك عن كلفته الباهظة على الاقتصاد الأمريكي العاجز الامر الذي يطرح سؤالاً كبيراً حول قوة الإمبراطورية الأمريكية وسلامة موقعها على رأس العالم. تقود متابعة سريعة للظروف التي أدت الى التصدع المالي الأمريكي نحو استراتيجية الحرب المفتوحة التي اعتمدتها إدارة الرئيس جورج بوش. لقد أرهقت الكلفة الباهظة للحرب على العراق الاقتصاد الامريكي مرتين. المرة الأولى عبر الإنفاق الخرافي من خزينة عاجزة أصلاً ومدينة حتى العنق والثانية عبر غياب استراتيجية للخروج من الحرب واعتماد الغموض لأسباب تكتيكية الامر الذي وضع ويضع الاقتصاد الأمريكي أمام معادلة صعبة ذلك أن الخوف المتصل بالحرب يعيق الاستهلاك ويحمل الشركات على الانتظار و يفرمل الاستثمار ويلهب أسعار النفط.. لا يعاني الاقتصاد الأمريكي من حرب العراق حصراً فهو يعاني أيضاً من حرب أفغانستان مرتين الأولى لأن واشنطن وحلفاءها لا يملكون استراتيجية خروج واضحة من هذه الحرب الباهظة الكلفة والتي تلقي بأوزارها الاقتصادية على الحلفاء الأوروبيين والثانية لأن مصير الحرب الأفغانية بات معلقاً على التطورات في القوقاز والنهوض الروسي. وتعتبر «الحرب» المضمرة على إيران ثالثة الأثافي ذلك أن الغموض الذي أشاعته الإدارة الأمريكية حول نواياها الفعلية تجاه إيران وافتقار واشنطن إلى استراتيجية خروج من الازمة الإيرانية ناهيك عن ارتباط مصير حرب العراق بايران كل ذلك أدى الى زيادة الأثقال على الاقتصاد الامريكي ووضعه على حافة الانهيار ومعه بطبيعة الحال الاقتصاد العالمي برمته. كانت حال الاقتصاد الأمريكي خلال السنوات الماضية أشبه بحال رياضي في ألعاب القوى مهيأ لرفع 200 كلغ فيما يصر مدربه على أن يحمل 400 كلغ فإن فعل سينهار حتماً تحت أثقال لا قدرة له على حملها وإن لم يفعل سيستسلم ويفشل في المنافسة. واذا كان الحل الوحيد لتجنب الفشل في الرياضة يكمن في التخلي عن المدرب وإعادة النظر في استراتيجية المنافسة فإن الحل الوحيد أيضاً في السياسية هو التخلي عن الادارة الفاشلة. ولعل الولاياتالمتحدة تبدو اليوم مهيأة تماماً للتغيير وربما للسقوط في أحضان «باراك أوباما» الذي يعد مواطنيه بشيء آخر مختلف تماماً عما أتاه جورج بوش وفريقه خلال السنوات الثماني الماضية. ومع ذلك قد لايتمكن المرشح الشاب من معالجة التصدع الكبير الذي يلوح في بنيان الامبرطورية الامريكية في نهاية عهد بوش والذي يهدد بانهيارات مفاجئة قد لا يتوافر الوقت الكافي لاستدراكها. ولمعاينة هذا التصدع لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء. في خطاب شهير ألقاه في 26 فبراير شباط عام 2003 أمام باحثي معهد « واشنطن انتربرايز» رسم جورج بوش صورة انتصارية للامبراطورية الامريكية لا تشوبها شائبة وحدد أهدافاً في الشرق الأوسط قال: ان تحقيقها سيؤدي الى تغيير العالم وجعله أكثر أمناً واستقراراً. واشترط احتلال العراق مدخلاً لهذا التغيير. قال: ان سقوط بغداد سيقود حتماً الى نهاية الصراع العربي الاسرائيلي والى نشوء دولة فلسطينية.واليوم لا دولة فلسطينية ولا من يحزنون. قال: ان العالم العربي سيتغير من المغرب الى البحرين والتغيير الوحيد الذي تم هو زيادة نفوذ المناهضين لواشنطن وتراجع أسهم الذي روجوا لمشروع الشرق الأوسط الكبير ولعل انتصاره اليتيم يكمن في تسليم المشروع النووي الليبي وعرضه في حديقة البيت الأبيض وتغيير سياسة العقيد معمر القذافي الخارجية .قال ان سقوط صدام حسين سيجعل العراق مثالاً للحرية والديموقراطية وبلداً جاذباً للتطور والتقدم على غرار ألمانيا واليابان وها نحن نرى اليوم عراقاً خرباً على كل صعيد ومثالاً يجدر الابتعاد عنه.قال إن المثقفين العرب يسمعون أصداء طبول «الحرية» التي تقرع في واشنطن ورحب بصدور تقرير التنمية العربية الاول واليوم يخجل معظم هؤلاء وهم قبضة هامشية مما حملته اقلامهم. أما المحصنون منهم تجاه الخجل فلا يعول عليهم في حين كفت تقارير التنمية عن الصدور. قال بأن حرب العراق ستقوي المؤسسات الدولية فإذا بهذه المؤسسات عاجزة عن معالجة الازمة الجورجية و الملف النووي الايراني وهي اليوم أضعف من اي يوم مضى. قال ان العالم سيكون اكثر امنا وبحبوحة وازدهاراً بعد احتلال العراق والعالم اليوم اقل أمناً وازدهاراً من اي يوم مضى. امااسرائيل الموعودة بالسيادة على الشرق الأوسط فقد خسرت عام 2006 الحرب الاولى في تاريخها وها هو رئيس وزرائها المستقيل يؤكد مذعوراً لمواطنيه أن الدولة العبرية ستندم على كل يوم يمر دون أن توقع السلام مع جيرانها. لم يتحدث بوش في ذلك الخطاب عن التعاون مع روسيا بيد أن سياسته الهجومية في البلقان و القوقاز وعلى ضفاف بحر قزوين أفضت الى خروج الدب الروسي من عقاله و الرد بقوة في أوسيتيا الجنوبية وابخازيا الامر الذي حمل أوكرانيا على إعادة النظر في سياستها الخارجية ومولدافيا على توخي الحذر والبقية ستأتي عاجلا أم أجلاً. قد لا تبرر المؤشرات السابقة الاستنتاج المتسرع بانهيار الامبراطورية الامريكية لكنها تكفي للحديث عن تصدعات خطيرة في جسدها ولعل الاقربين منها يرون هذه التصدعات اكثر من الابعدين. هكذا نرى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يشرب حليب السباع ويجرؤ على رفض اتفاق أمني مع «المحتل الامريكي» ويردع الاكراد في قضية خانقين. ونرى الرئيس الباكستاني الجديد آصف علي زرداري يرفض ان يشن الحلف الاطلسي غارات على قبائل الباشتون الباكستانية دون اذن الحكومة ويسترضي تلك القبائل بوعود خدماتية في حين يستخدم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لغة تصالحية مع عمر البشير في ملف دارفور ويزور بشار الأسد في دمشق ويعول على دوره في حل مشكلة النووي الايراني وترعى تركيا دون تصريح من واشنطن مفاوضات سورية اسرائيلية حول الجولان... الخ. في كتاب شهير صدر عشية حرب العراق استنتج الباحث الديموغرافي الفرنسي «ايمانويل تود» أن الولاياتالمتحدةالامريكية صارت عبئاً على النظام العالمي بعد أن خسرت موقعها الاقتصادي المهيمن وخسرت التنافس مع «اوراسيا» حيث يستقر الانتاج الاكبر والاهم في العالم وتوقع ان يتصدع الاقتصاد الامريكي جراء حرب العراق. حينذاك راهن الرئيس جاك شيراك على استنتاجات مواطنه وعارض الحرب وطالب بتعددية القوى على الصعيد الدولي. بيد أنه وهو الديغولي لم يصمد طويلاً في معارضته فخسر رهاناً تاريخياً ولعله اليوم «يأكل أصابعه ندماً». [email protected]