تتجه أنظار الشعوب العربية اليوم إلى الكويت لمتابعة قمة قادتها وما سيخرجون به من نتائج وقرارات واتفاق في مواجهة الأوضاع الخطيرة والتحديات الجسيمة التي تلقي بظلالها الكئيبة على مسيرة الأمة في شتى مناحي الحياة بدءاً بتداعيات العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة وحالة الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني ومروراً بالظرف الحساس الذي يحيق بمجرى العمل العربي المشترك والتجاذبات المتغلغلة بداخله والمعارك الصاخبة التي تتهدد بنيانه وانتهاءً بالتأثيرات الماحقة للأزمة المالية العالمية وغياب التكامل الاقتصادي والتنسيق العربي، وغيرها من الأزمات التي تتسع حرائقها في أكثر من ساحة عربية على نحو مقلق ومخيف. ولعل هذه التحديات والمخاطر هي من تجعل من قمة الكويت الاقتصادية التي شاءت الأقدار أن تأتي في أصعب منعطف يواجه الأمة، قمة مفصلية تحتاج فيها الذاكرة عربية، إلى إعادة تنشيط لكي تستحضر دروس وتجارب الماضي والاستفادة منها من خلال تناول تحليلي معمق يفضي إلى استشراف قضايا الحاضر ومقتضيات المستقبل بفكر حي ومتقد، يعزز من وحدة الموقف ويتقدم بالأمة بخطى ثابتة على دروب النمو والتطور والعمل المشترك الفاعل القادر على إبراز وإظهار المعادلة العربية وحيويتها. ولذلك فإن ما يتطلع إليه الشارع العربي من قمة الكويت هو أن تأتي مختلفة عمّا اعتاد عليه في كل القمم السابقة وبخاصة أن الشعوب العربية قد شبعت من الخطب الحماسية وبيانات الشجب والتنديد والمواقف الغامضة أو الضبابية التي تطلق لمجرد الاستهلاك الإعلامي وبات الجميع ينتظرون من قادتهم أفعالاً لا أقوالاً ومعالجاتٍ وحلولاً لا مسكناتٍ ينتهي مفعولها عقب الإعلان عنها مباشرة في الفضائيات. وفي هذا الجانب يُحسب لفخامة الرئيس علي عبدالله صالح أنه اختزل بحكمته وحنكته السياسية الطريق لبلوغ هذا الهدف بدعوته في التصريح الذي أدلى به لوسائل الإعلام عقب وصوله دولة الكويت إلى جعل قمة الكويت قمة للمصارحة والمصالحة والتضامن .. حيث لامست هذه الدعوة، بشكل مباشر، الوتر الحساس الموصل إلى تلك الغاية. فالحقيقة أن أوضاعنا الراهنة تتطلب من القادة العرب اعتماد مبدأ المصارحة وهو المبدأ الذي يمثل في جوهره جهاد النفس لتنقيتها من الشوائب الصغيرة التي يعود إليها السبب في ما يعاني منه الواقع العربي من تشرذم وضعف وهوان وانقسامات حادة، ومن دون اعتماد مبدأ المصارحة فإنه يصعب إعادة بناء الذات الجماعية القادرة على الفعل والتأثير في عالم لا يحترم إلا الأقوياء. إذ كيف لأحد أن يقبل ظهور الأداء العربي المشترك بمثل ما هو عليه الآن من هزال وتشرذم أو أن يتخيل استمرار ذلك الطابع من التوجس في العلاقات العربية - العربية في حين أن العرب أنفسهم لا يجدون حرجاً وهم يقدمون التنازلات للآخرين إلى درجة صار العربي لا يغفر لأخيه زلة لسان أو أي اختلاف في الرؤى أو الاجتهاد.. ومع أننا لا نشك في وعي العرب بخطورة الأوضاع التي تواجه منطقتهم وشعوبهم، إلا أننا نجد أن مثل هذا الوعي لم يعد وحده كافياً باعتبار أن المعضلة لا تتوقف عند حدود الفهم لجسامة الظروف التي تفرضها التحديات الماثلة، وإنما في عجز العرب عن صياغة التوجهات الإيجابية التي تمكنهم من مجابهة تلك التحديات وفق رؤية جماعية وموقف موحد وعمل مؤسسي يغلّب مصلحة الأمة على أية مصالح أخرى. وإذا ما سلّمنا بهذه الحقيقة فإن الواجب أن يحرص قادة العرب المجتمعون اليوم في الكويت على تأطير مناقشاتهم ومداولاتهم بمبدأ المصارحة بهدف تحقيق المصالحة وتجسيد التضامن ووحدة الصف لاسيما وأن إرادة الإجماع العربي هي اليوم أكثر من ضرورية لمواجهة الغطرسة الإسرائيلية واستهتارها بالقانون الدولي وحرمة الدم الفلسطيني الذي استباحته بوحشية بشعة يندى لها الضمير الإنساني. ونعتقد أن الكارثة والمآسي والمذابح الجماعية التي طالت أهلنا في قطاع غزة أطفالاً وشيوخاً ونساءً ومدنيين عُزّل هي كارثة حلت بكل العرب، فمصابُها هو مصابُنا وفجيعتُها هي فجيعتُنا وضحاياها هم ضحايانا وأطفالها الذين حصدتهم آلة الموت والخراب والدمار والحقد الإسرائيلي هم أطفالنا الذين بكتهم المآقي العربية من صنعاء في أقصى المشرق إلى نواكشوط في أقصى المغرب العربي. لقد دمرت إسرائيل أكثر من خمسة وعشرين ألف منزل والعشرات من دور العبادة والمستشفيات وسوّت بالأرض كل ما يتعلق بالمنشآت العامة والخاصة والبنى التحتية بتحدٍ سافر وصل إلى استخدام الأسلحة المحرمة ضد المدنيين من أبناء الشعب الفلسطيني، ومثل هذا الثمن الباهض ألا يستدعي من القمة العربية وقفة جادة ومسئولة وموقفاً موحداً يعيد الاعتبار للآلاف من الشهداء والجرحى الذين اغتالتهم الهمجية الإسرائيلية؟ إن ذلك يستحق أن تبادر قمة الكويت للانتصار لأولئك الضحايا الذين أزْهقت أرواحهم ظلماً وعدواناً وذلك عبر الخروج بقرارات فاعلة تنهي معاناة أبناء الشعب الفلسطيني ومؤازرتهم بكل وسائل الدعم من أجل استعادة حقوقهم المشروعة وإقامة دولتهم المستقلة ونيل حريتهم الكاملة غير المنقوصة. وفي وسع العرب امتلاك هذه المقدرة والانتصار لإخوانهم أبناء الشعب الفلسطيني الذين أحاق بهم الظلم والغبن والحيف عبر ممارسة كافة أشكال الضغط التي تقود المسئولين عن تلك المجازر الجماعية وحرب الإبادة من ساسة وجنرالات إسرائيل للمحاكمة أمام القضاء الدولي لينالوا جزاءهم العادل إزاء ما اقترفوه من بشاعات وفظاعات حتى يكونوا عبرة لغيرهم من النازيين الجدد المتعطشين للدماء، وذلك لا يمكن أن يأتي عن طريق التمني وإنما بالعمل وواحدية الموقف والأفعال التي تجد طريقها إلى التنفيذ على أرض الواقع.