ما أقسى الموت، وموت الشاعر تحديداً، ربما لأنه الوحيد الذي بموته تموت الكلمات وتتوقف عن الإنجاب والإخصاب، ولأن الشعراء في العالم هم ضمير الشعوب وصوت الوجدان المعبر عن أوجاعها وأحلامها، وهم من يرسمون في هدوء حيناً وبانفعال أحياناً الطريق الذي ينبغي أن ترتاده الشعوب للخلاص من نعاسها الطويل، والشعراء كأفراد وكجماعات هم الضوء الذي يحدو قافلة التغيير ويرفدها بالأحلام والأهداف، وبقصائدهم التي توازن بين الإجادة الفنية والرسالة الاجتماعية يتغذى الثوار ويتمثلون الثورة والتغيير، وليس من المبالغة في شيء القول بأن تاريخ الثورة في بلادنا يكاد يكون في الجانب النابض منه تاريخاً للشعر والشعراء. وإذا كانت بلادنا قد فقدت - منذ أيام - الشاعر الكبير علي بن علي صبرة فإنها تكون بذلك قد افتقدت صوتاً بارزاً من الأصوات التي واكبت مسيرة النضال الوطني لا بما كتبه من شعر فحسب، وإنما بما كتبه من نثر أيضاً، فقد كان مفكراً ومؤرخاً وناقداً أدبياً. وأسهم في حقل الأغنية وفي كتابة القصائد التحريضية باللهجة العامية. يضاف إلى ذلك أنه كان شاعراً شجاعاً لا يهاب. يقول كلمته غير خائف ولا وجل من العواقب، لا سيما في عهد ما قبل الثورة حين كانت بعض قصائده بما فيها تلك التي تنتمي إلى حقل المديح، تمزج الهجاء بالمدح، والتهديد بالرجاء. أما في الإلقاء فقد كان فارساً لا ينازع في طريقة أدائه وفي استئثاره بمشاعر الجمهور وهي ميزة لا ينافسه فيها شاعر آخر. وأتذكر أنني استمعت إليه - قبل الثورة - مرتين. كانت الأولى وهو يلقي قصيدة له في ميدان التحرير (شرارة سابقاً) فظل صوته العذب يرافقني أياماً طوالاً. أما المرة الثانية فكانت في حديقة السفارة المصرية بمناسبة الاحتفاء بثورة 32 يوليو، وقد شارك فيها بقصيدة أثارت موجة من الإعجاب والتصفيق وما زلت أتذكر منها هذه الأبيات: آمنت بالشعب والأحرار إيماناً لو لامس الصخرَ أضحى الصخرُ إنسانا آمنت بالشعب لا الأغلال تسكته وإن قضى تحت نير البغي أزمانا آمنت بالشعب إيماني بخالقه وبالشباب الذي في الحق ما لانا آمنت بالشعب إذ تغلي مراجله مزمجراً في مجال الثأر غضبانا لقد قال أحدهم بعد أن انتهى الشاعر علي بن علي صبرة، من قراءة قصيدته «استعد يا أخ علي للسجن" لكن ذلك لم يحدث، فقد كان الحكم الكهنوتي في آخر مراحله ولم يعد له من الأنياب ما يفترس به الشعراء أو غيرهم من البشر، وكان الوعد والوعيد هو ما تلقاه الشاعر من أزلام الحكم وزبانيته. وبما أنني اقتربت من عالم الذكريات - ولي مع الراحل العزيز مخزون كبير منها - فسأكتفي بالإشارة إلى لقاء لا يبرح الذاكرة كان ذلك قبل الثورة بثلاثة أعوام تقريباً وكنا نازلين في دار الضيافة في الحديدة وموقعها بالقرب من الشاطئ، ولعل منظر البحر والأمواج وضوء القمر قد أثاره فدعاني لكي نقترب من البحر ونقف على ذلك اللسان الممتد في قلب الشاطئ والذي كان يشكل بقايا مشروع فاشل لإنشاء ميناء لم يتم إنجازه. في ذلك المكان أسمعني الشاعر الكبير وأسمع البحر نماذج من قصائده وهو يبكي ودموعه تنهمر كأنه طفل في الرابعة. شعرت لحظتها مدى الحساسية والرهافة اللتين كان يتمتع بهما هذا الشاعر المسكون بالأحزان والأشجان والأحلام. وبالرغم من تغير الزمن ومن لقاءاتنا الكثيرة والطويلة بعد ذلك الموقف الحزين، إلا أنه ظل مرسوماً وحياً في الذاكرة وكأنني لا زلت أسمعه يبكي، تغمده الله بواسع الرحمة والرضوان وألهم أهله والوطن الصبر والسلوان. الأستاذ الدكتور قيس غانم في ديوانه الأول: هو واحد من أربعة علماء عباقرة هم أبناء أستاذنا الجليل الراحل الأستاذ الدكتور محمد عبده غانم، والدكتور قيس طبيب مشهور يعمل حالياً في كندا يعالج المرضى ويدافع عن القضايا العربية بشعره ونثره وخطاباته الجماهيرية. عنوان ديوانه الأول (من اليمين إلى اليسار) وفي مقدمته يعترف بأن صلته بالشعر لا ترتقي إلى مستوى والده أو أخيه الدكتور شهاب، لكن الدارس يستطيع أن يلمس جذوة الموهبة في كل ما كتبه الدكتور قيس من شعر سواء باللغة العربية أو باللغة الإنجليزية. فالديوان الأول يقوم على مناصفة بين اللغتين، وقد تولى جمعه والإشراف على إخراجه وطبعه شقيقه الأصغر سناً الدكتور نزار غانم. يقع الديوان في 071 صفحة من القطع المتوسط. تأملات شعرية: أنت منكسرٌ وهو منكسرٌ وأنا.. كلنا يتقلب في قبضة الإنكسارْ الأخلاَّءُ يا إخوتي غادروا لم يقولوا وداعاً ونحن على إثرهم نتقلب من وجعٍ حارقٍ في انتظار القطار!