مرة اخرى، الحرب الأميركية- الاسرائيلية لن تقع بسبب الاستيطان واصرار حكومة بيبي نتانياهو على ما يسميه مسؤول كبير في البيت الأبيض "اهانة" الولاياتالمتحدة. يؤكد ذلك، كلام الرئيس اوباما الى شبكة "فوكس" قبل ايام وفيه اشارة الى استعداده لبلع الاهانة الاسرائيلية، اقله في الوقت الراهن. لكن ذلك لا يعني انه لن تحصل مواجهة، وان غير مباشرة، بين الجانبين. ما يجعل المواجهة محتملة دخول عنصر جديد على خط العلاقة الأميركية- الاسرائيلية. هذا العنصر هو رأي القيادة العسكرية بما يدور بين الفلسطينيين والاسرائيليين وتأثير ذلك على وضع القوات الأميركية وامنها في الشرق الأوسط والمناطق المحيطة به والقريبة منه وصولا الى افغانستان وباكستان. ليس من عادة القيادة العسكرية الأميركية التدخل في الشؤون السياسية او اعطاء رأيها، خصوصا اذا لم يطلب منها ذلك. لكن الجنرال ديفيد بتريوس قائد القيادة المركزية الأميركية، التي تشرف على حرب افغانستان والوضع في العراق، قال في شهادة له قبل ايام امام احدى لجان الكونغرس ان التوترات بين الأسرائيليين والفلسطينيين لها تأثير "بالغ" على القوات الأميركية العاملة في العالم الإسلامي وان الجيش يراقب كل التطورات عن كثب. ما قد يكون اهمّ من الشهادة الأخيرة لبتريوس الاجتماع الذي عقده ضباط كبار يمثلون القيادة المركزية مع رئيس هيئة الأركان المشتركة الأدميرال مايكل مولن في البنتاغون. عقد الاجتماع في السادس عشر من كانون الثاني- يناير الماضي وقدم فيه الضباط عرضا مدعوما بخرائط وصوراستمر خمساً واربعين دقيقة ترك اثراً كبيراً لدى الأدميرال مولن. ابرز ما تضمنه العرض ان الجنرال بتريوس، الذي تحارب القوات التي في امرته على غير جبهة، بات "قلقا" من غياب التقدم بين الأسرائيليين والفلسطينيين وان الزعماء العرب بدأوا يفقدون ثقتهم بالإدارة الأميركية وان الموقف المتصلب الذي تتخذه اسرائيل يشكل تهديداً لموقع اميركا في الشرق الأوسط. وذكرت مجلة "فورين بوليسي" التي اشارت الى هذا الاجتماع المهم ان احد كبار المسؤولين في البنتاغون لم يتردد في وصف ارسال المبعوث الرئاسي جورج ميتشل الى الشرق الأوسط، بأن هذا التحرك مرتبط بشخص "عجوز وبطيء اكثر من اللزوم" وانه جاء "متأخرا". لم يسبق لقائد للقيادة المركزية ان اتخذ مواقف سياسية من هذا النوع. ولذلك حرص الضباط الذين التقوا رئيس هيئة الأركان المشتركة على توضيح ان العرض المقدم هو نتيجة جولة لهم في عدد من بلدان الشرق الأوسط التقوا فيها مسؤولين كباراً بناء على توجيهات من بتريوس. وكانت حصيلة الجولة ان الرسالة التي تلقيناها، "اينما ذهبنا"، هي نفسها. تتلخص الرسالة بأن "أميركا لم تعد ضعيفة فحسب، بل ان هيبتها العسكرية تتآكل ايضا". سبق لعدد كبير من المسؤولين العرب ان حذَّروا الإدارة الأميركية السابقة والإدارة الحالية من مخاطر التصلب الإسرائيلي وترك السلام تحت رحمة المتطرفين، خصوصا اليمين الإسرائيلي. كان الملك عبدالله الثاني في غاية الجرأة عندما القى خطاباً في آذار- مارس من العام 2007 امام مجلسي الكونغرس تطرق فيه الى العذابات التي مرّ فيها الشعب الفلسطيني والى النتائج المأساوية التي ستترتب على غياب التسوية العادلة القائمة على خيار الدولتين. لم يرد احد في واشنطن سماع صرخة العاهل الأردني الذي بدا وكأنه صوت في البرية. ذهب عدد من زعماء الكونغرس الى حد انتقاد عبدالله الثاني بسبب وضعه كل اللوم على اسرائيل متفاديا اية اشارة الى "حماس". الآن، بعد ثلاث سنوات على الخطاب، لا يزال كل شيء يراوح مكانه. تبين بكل بساطة ان الحكومة الإسرائيلية لا تريد التفاوض في شأن مستقبل الضفة الغربية وانهاء الإحتلال على الرغم من ان الشريك الفلسطيني موجود وان "حماس" عزلت نفسها بنفسها بعدما حصرت طموحها بالسيطرة على امارتها الطالبانية في غزة. والأهم من ذلك، يتبين ان الأميركيين في حال من الضياع لأسباب لا علاقة لها بالأيديولوجية كما كانت الحال مع ادارة بوش الابن، بمقدار ما انها مرتبطة حاليا بنظرية تقول ان النيات الطيبة كافية لصنع سياسة. ربما يمتلك الرئيس اوباما كل النيات الطيبة في شأن كل ما له علاقة بالشرق الأوسط. ولكن يبدو ان عليه التعرف الى المنطقة اولاً كي يكتشف ان آخر ما تحتاج اليه هو النيات الطيبة وان لا شيء ينفع مع تطرف اسرائيل والمتطرفين، من عرب وغير عرب، في الجانب الآخر، الذين يؤازرونها من حيث يدرون، سوى العصا الغليظة... هل يحمل اوباما اخيرا العصا الغليظة ويرفعها في وجه التطرف ام يستمر عاجزا عن القيام بأية مبادرة من اي نوع كان تجاه الشعب الفلسطيني، اقله لجهة تحديد مرجعية اي مفاوضات مباشرة او غير مباشرة؟ في كل الأحوال، ان ما حصل في الأسابع القليلة الماضية في واشنطن لا يمكن الاستخفاف به. للمرة الأولى، ترفع المؤسسة العسكرية صوتها. يترافق ذلك مع نشر المجلات والصحف الأميركية كلاماً من نوع ان هناك لوبيات كثيرة قوية في العاصمة الأميركية وهناك لوبيات لديها انتشار في كل انحاء الولاياتالمتحدة مثل ذلك اللوبي الذي يؤيد حق المواطن في امتلاك سلاح فردي او لوبي المحامين ولوبي الأطباء... او اللوبي الإسرائيلي الذي يمتلك تأثيراً كبيراً داخل الكونغرس . لكن اللوبي الأقوى يظل المؤسسة العسكرية التي خرجت اخيراً عن صمتها. لم يسبق للمؤسسة العسكرية، ممثلة بالقيادة المركزية، ان ارسلت فريقاً الى البنتاغون ليشرح لرئيس هيئة الأركان المشتركة تفاصيل العلاقة بين التسوية في الشرق الأوسط، خصوصا بين الفلسطينيين والإسرائيليين من جهة، وبين المخاطر التي يتعرض لها الجنود الأميركيون في العراق وافغانستان وباكستان من جهة اخرى. كل ما ارادت المؤسسة العسكرية قوله ان العلاقة الأميركية بأسرائيل مهمة، لكنها ليست بأهمية حماية الجنود الأميركيين والمحافظة على ارواحهم. انه عامل جديد لا يمكن تجاهله في سياق التطورات التي تشهدها العلاقات بين واشنطن وحكومة بيبي نتانياهو. لعلّ أفضل ما يفعله الفلسطينيون المحافظة على ضبط النفس، على الرغم من ان الهجمة التي تتعرض لها القدس كفيلة بجعل اي عربي يفقد اعصابه!