مشكلتنا مع بعض القوى الحزبية أنها فهمت الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير بمفهوم مغلوط ومبتسر، وتتعامل معها من منظور قاصر وضيق يختزلها في أن تقول ما تشاء لمن تشاء وأن تفعل ما تشاء وكيفما تشاء، دون وعي أو إدراك أن الديمقراطية تقترن بالمسؤولية وليست عملية فوضوية لا ضابط لها أو معيار وإلاَّ لكانت هي الغوغائية بعينها التي لا يمكن أن يقبل بها أي شعب مِنْ شعوب الأرض. وستظل هذه المشكلة بإفرازاتها ومنغصاتها تجتر نفسها في الحياة السياسية والحزبية، حتى يبلغ هؤلاء درجة النضج والرشد ويتعزز لديهم الإيمان بثقافة الديمقراطية ومبادئها بوصفها منهجاً لحياة مدنية قوامها الدستور والنظام والقانون، وإلى أن يقتنع هؤلاء بهذه الحقيقة ليس من الواجب أن تتوقف مسيرة الديمقراطية وتتعطل استحقاقاتها بانتظار أن ينضج هؤلاء ويرتقوا إلى مستوى المسؤولية الملازمة للديمقراطية ويطبعوا أنفسهم على مفرداتها وقيمها وقواعد ممارستها، خاصة وأن كل المؤشرات تؤكد على أن هؤلاء ما زالوا غير قادرين على التكيف مع ثقافة الديمقراطية بفعل انشدادهم إلى رواسب الماضي الشمولي، ولذلك فإنهم يلبسون مشروعهم السياسي لبوساً متعددة الألوان في توليفة عجيبة يتزاوج فيها فكر اليمين مع فكر اليسار في رقعة واحدة غير متماسكة النسيج ولا يجمعها سوى جامع العدائية لهذا الوطن التي يسعون من خلالها ليضمنوا لأنفسهم مكانة ونصيباً ومصالح ومكاسب غير مشروعة تتصادم كلياً مع المصالح العليا لهذا الوطن. وفي ظل هذه التوليفة المتنافرة في آيديولوجيات مكوناتها وتوجهاتها ومراميها وأهدافها فإن الديمقراطية بالنسبة لمن في هذه التوليفة تغدو بمثابة وسيلة وصولية ونفعية وانتهازية تستمد منهجها من المبدأ المكيافيلي "الغاية تبرر الوسيلة"، وذلك ما تبرهن عليه تصرفاتهم وأفعالهم، سواء المتصلة منها بالاستحقاقات الديمقراطية والدستورية التي تمثل التزاماً وحقاً للشعب أو ما يتعلق منها بمواقفهم من القضايا الوطنية والتحديات التي يواجهها الوطن، فهم لا يفهمون من حرية الرأي والتعبير إلاَّ المعنى المرادف للهدم، ولا يفهمون من الديمقراطية إلاَّ مصطلح التقاسم و"المحاصصة"، ومنتهى ما تبلغه مداركهم في هذا الجانب هو أن هذا الوطن ليس سوى مجرد كعكة أو غنيمة ينبغي تقاسمها وتوزيعها في ليل!!. إنهم يتحدثون عن تقاسم الثروة وليس تخصيصها لمشاريع التنمية والبناء وتسخيرها لمتطلبات التربية والتعليم والصحة وشبكات الطرق والكهرباء والمياه والصرف الصحي والاتصالات، ويتحدثون عن الثروة النفطية وأين تذهب إيراداتها مع أن الإنتاج النفطي لبلادنا الذي لا يزيد عن 370 ألف برميل يومياً كما أشار فخامة الأخ الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية يوم أمس، هم أكثر من يعلمون علم اليقين أن عائداته تتوزع مناصفة بين خزينة الدولة والشركات النفطية الأجنبية وهو ما تعتمد عليه الموازنة العامة للدولة اعتماداً أساسياً في صرف الرواتب لمليون ونصف المليون موظف وتمويل مشاريع البنية التحتية التي غطت كل مناطق اليمن، ولا ينكر ذلك إلاَّ جاحد أو مكابر أو أعمى بصرٍ وبصيرة. لقد تعطلت لدى هؤلاء حاسة الصدق مع النفس وتآكلت لديهم روح المسؤولية وتهالكت لديهم معاني الإيثار والإخلاص من أجل وطنهم وعطبت في دواخلهم قيم الوطنية والولاء فأعمتهم مصالحهم الذاتية والأنانية عن رؤية مصالح الوطن فراحوا يستبدلون اليقين بالزيف، والحق بالباطل، والهدى بالضلال، والثوابت بالمشاريع الصغيرة، والمصالح العامة بالمصالح الخاصة، ومسؤوليات البناء بمعاول التخريب والفوضى، وعلى نحو من العدمية العبثية التي تجعلهم يعتسفون منطق العقل وحقائق الواقع ويمتطون ركب الجهل والطيش. ولأن هؤلاء صاروا خارج المعطى التاريخي والسياق الديمقراطي، فقد صار من الصعب إقناعهم بخطأ مواقفهم وانحراف مسلكهم، خاصة وأنهم يعيشون إضراباً مفتوحاً عن التفكير القويم وتصحراً ذهنياً يدفعهم دائماً إلى الشطط والتشنج والتعالي على شعبهم ووعيه الجمعي وإرادته الحرة وفرض الوصاية عليه دون وجه حق!!. ولو أن هؤلاء حكَّموا صوت العقل وقواعد المعرفة ومعطيات الواقع اليمني الجديد، لأدركوا أن شعبنا العظيم قد شبّ عن الطوق، ولا يمكن أن يقبل بإدعاء الوصاية عليه أو على نهجه الديمقراطي، أو المساومة على استحقاقاته الدستورية، أو الانسلاخ عن ثوابته الوطنية، أو عرقلة توجهاته التنموية، أو العبث بأمنه واستقراره ونسيج وحدته الوطنية، أو إشاعة مظاهر الانفلات والفوضى في حياته، ولتذكروا أيضاً أن هذا الشعب يمتلك من العزيمة والإرادة والتصميم ما يجعله أقوى من كل التحديات والمراهنات الخاسرة وأقدر على إفشالها والمضي بروح أبية وخطوات واثقة نحو بناء مستقبله الأرغد وترسيخ مداميك تجربته الديمقراطية على أرضية صلبة لا تهزها الزوابع وهرطقات أدعياء الديمقراطية.