تثير المواجهات الدامية بين رجال القوات المسلحة ومقاتلي تنظيم ( القاعدة ) في محافظة أبين قلقا كبيرا في أوساط المجتمع اليمني والبلدان الشقيقة والصديقة التي تنخرط في اطار المجهود الدولي لمكافحة الارهاب ، وتجفيف منابعه ومحاصرة مصادر تمويله ، ومنع توطينه. وقد احتلت قضية مكافحة التطرف والإرهاب مكانا ً بارزا في اهتمامات المجتمع الدولي وبضمنه بلادنا وبلدان العربي والاسلامي .. واللافت للإنتباه ان الاهتمام اليمني والاقليمي والعربي الملحوظ بهذه القضية التي ارتبطت بتحول الأفكار الضالة الى أجساد مفخخة تهدر دماء االأبرياء وتهدد الأمن والسلم الدوليين ، لم يقف عند حدود الإدانة فقط ، بل تجاوزه الى بلورة اتجاهات استراتيجية جديدة لمواجهة خطر الأفكار المتطرفة تشمل تعديل المناهج الدراسية وحماية المساجد من أن تتحول الى وسيلة لنشر الأفكار المتطرفة ، والتحريض على العنف وتكفير اتباع المذاهب الاسلامية المختلفة ، وإثارة الكراهية ضد أهل الكتاب من أتباع الأديان السماوية . من نافل القول ان جميع القوى السياسية والتيارات الفكرية وبدون إستثناء توّرطت بأشكال ومستويات مختلفة في إنتاج ثقافة العنف والتعصب عبر تسويق مشاريع سياسية شمولية ذات نزعة إستبدادية وإلغائية أضاعت فرصا ً تاريخية لتطور المجتمع ، وأهدرت طاقات وإمكانات هائلة ، وخلقت جراحا ً غائرة وطوابير من ضحايا الصراعات السياسية وأعمال العنف والحروب الأهلية والإغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية التي كان يتم تبريرها سياسيا ً وايديولوجيا ً سواء بذريعة الدفاع عن الوطن والثورة ، أو بذريعة مناهضة القوى الرجعية ، أو بذريعة حراسة الدين ومحاربة الكفر ، بما في ذلك فكرة (( التترس )) الدخيلة على الإسلام ، والتي تجيز قتل المدنيين من الشيوخ والنساء والأطفال والشباب الذين يعيشون أو يتواجدون في محيط الطائفة المتتنعة ، ويوفرون لهذه الطائفة (( المرتدة )) فرصة التترس .. والمثير للدهشة ان الذين روجوا لهذه الفكرة الفاشية زعموا بأن (( علماء الدين الاسلامي أجمعوا على قتل هؤلاء المسلمين من أجل دحر الكفر عن دار الإسلام )) والادعاء بأنهم سوف يبعثون يوم القيامة على نياتهم !! لا ريب في أن أطرافا ً سياسية بعينها تتحمل مسؤولية مباشرة عن الخطاب التكفيري التحريضي الذي أدّى الى إنتشار التطرف لدى بعض المنفعلين بهذا الخطاب ، وأنتج من بين صفوفهم بعض القتلة والمجرمين القساة الذين تورطوا في إرتكاب جرائم إرهابية. بيد أن الأمانة التاريخية توجب الإشارة الى أن رواسب ثقافة العنف والتطرف ، وبقايا نزعات الاستبداد والإقصاء والإلغاء والإنفراد والأحادية ، ليست حكرا ً على طرف سياسي دون آخر ، وإن كان ثمة من لم يساعد نفسه بشكل خاص والمجتمع بشكل عام على التخلص من تلك الرواسب . بوسعنا القول أن ثقافة الإستبداد في مجتمعنا اليمني والمجتمعات العربية إمتلكت أجهزتها المفاهيمية من خلال طبعات مختلفة للإيديولوجيا الشمولية التي إشتغل مثقفوها على أدوات وأطر تتسم بالإفراط في تبسيط الظواهر والوقائع والإشكاليات والتناقضات القائمة في بيئة الواقع ، والسعي الى إخضاعها للأطر الفكرية والأهداف السياسية للإيديولوجيا ، بما هي منظومة جاهزة ونهائية من الأفكار والأهداف والرؤى والتصورات والآليات والتهويمات التي تسعى الى السيطرة على وعي وسلوك الناس ، وصياغة طريقة تفكيرهم وتشكيل مواقفهم وإستعداداتهم ونمط حياتهم على أساسها . ولمّا كانت الآيديولوجيا سواء كانت ذات لبوس ديني أو قومي أو إشتراكي تنزع دائماً الى ممارسة الوصاية على الحقيقة والمعرفة ، إذ ْ تزعم باحتكار الحقيقة وتسعى الى أدلجة المعرفة ، فإنها تُعطَّل في نهاية المطاف دور العقل كأداة للتفكير والتحليل ، حين ترى العلة في الواقع لا في الأفكار والتهويمات التي تؤثر على طريقة فهم الواقع والتفاعل معه .. بمعنى فرض سلطة الصنم الإيديولوجي بصرف النظر عن لبوسه ، وما يترتب على ذلك من إفتقاد الموضوعية والعجز عن معرفة الواقع واكتشاف الحقيقة !! لم يعد الإعلان عن قبول الديمقراطية كافيا لدمج أي طرف سياسي في العملية الديمقراطية ، ما لم يتم التخلص من الجمود العقائدي والتعصب للماضي القريب او البعيد ، ومراجعة التجارب والأفكار والمواقف تبعا ً للمتغيرات التي تحدث في العالم الواقعي ، وتستوجب بالضرورة تجديد طرائق التفكير والعمل ، والبحث عن أجوبة جديدة على الأسئلة التي تطرحها متغيرات الحياة ، وإبداع أفكار جديدة وتصورات وحلول مبتكرة للقضايا والإشكاليات التي تفرضها علينا تحولات العصر والحضارة ولا يمكن معالجتها بوسائل وأفكار قديمة وماضوية . يقينا ً أن ثقافة العنف والتعصب لا تنحصر في طرف سياسي بعينه أو طبعة محددة من طبعات الآيديولوجيا الشمولية التي عرفها المجال السياسي لمجتمعنا ، بل تتجاوز ذلك بالنظر الى مفاعيلها المتنوعة في البيئة الفكرية والثقافية والتعليمية والإجتماعية التي تعاني من تشوهات لا تحصى ، بما في ذلك السيولة التي تتجسد في انتشار واستخدام السلاح تحت ذريعة المحافظة على العادات والتقاليد وحماية الخصوصية !! في دراسته القيمة حول موقف بعض الجماعات الإسلامية من الغرب والتي نشرتها مجلة "العربي" الكويتية في عددها رقم 402 الصادر في شهر مايو 1992م ، اجرى المفكر الاسلامي حسين أحمد أمين مقاربة تاريخية بين هذا الموقف وبين موقف مماثل له في الاديان الأخرى ، مشيراً إلى أن التجارب التاريخية دلت على ظهور جماعات دينية انعزالية في المجتمعات التي تمر بهزات عنيفة ، حيث تميل هذه الجماعات إلى إغلاق الابواب أمامها وتنزع إلى العيش في طوطم خاص بها ، وتتجنب الإنفتاح أو الإتصال بالتيارات العلمية والفكرية التي عرفتها مجتمعاتهم في أوقات مختلفة . ويوضح د. حسين أمين فكرته بتفصيل أدق بقوله : " كان هذه هو ما حدث أيضاً في العالم الاسلامي مع بداية الثلاثينات من هذه القرن حين بدأت جماعات اسلامية تُروِّج لدعوة شديدة الإختلاف عن دعوة المصلحين الإسلاميين من اتباع الطهطاوي ومحمد عبده ، بل ورأت في هؤلاء المصلحين دعاة التغريب ، إذ هم لم يطعنوا في قيم الغرب بل انتحلوها للاسلام " . ويضيف حسين أمين قائلاً : " ذهبت هذه الجماعات بدءاً من الإخوان المسلمين إلى أن الإسلام بمفرده قادر على التصدي لهذه التحديات دونما حاجة إلى اقتباس من حضارات أخرى ، غير أنهم لم يفلحوا إلا في ابراز حفنة من النقاط والقضايا التي ركزوا عليها والحّوا في تكرارها إلى حد الإملال واعني بها موضوع الربا وفائدة البنوك وسفور المرأة وتحديد النسل والحدود ، والنفور من استخدام مناهج البحث العلمي والتاريخي في العلوم الانسانية .. ولذلك فان مفهوم المعرفة والمعلومات عندهم انها ثابتة وخالدة وقد نجم عن ذلك ثلاثة عواقب : الأولى : أن المعرفة عندهم لم تعد عنصراً ابداعياً ديناميكياً في الفكر مما اسهم في قهر كل نشاط فكري حر بدعوى مخالفته لعقيدة السلف . الثانية : أن اعتبار المعرفة دائرة مغلقة وثابتة ، يجعل من الصعب تقبل او ابداع المعارف الجديدة ما لم تجد لها سنداً في فكر السلف الأقدمين . الثالثة : أن سبيل اكتساب المعرفة هو تجميعها من كتب الأسلاف أو الكتب الحديثة القائمة على كتب الأسلاف لا التحليل والاستنباط والتجربة والفكر الحر ، وكلها عواقب خلقت عند غير المسلمين تصوراً خاطئاً بأنه لا يمكن أن يكون للإسلام مستقبل ما دام عاجزاً عن مسايرة التطور ". يحلو للخطاب السلفي الشعبوي الراديكالي أن يستشهد في بعض مداولاته الفكرية بالتجربة اليابانية التي تمكنت من النهوض بعد هزيمتها في الحرب الثانية ، دون أن تتراجع عن اصوليتها الكونفوشية، بيد أن هؤلاء يتجاهلون ميكانيزمات القدرة اليابانية على الاستجابة للتحديات الحضارية ، فقد وقع الخطاب السلفي العربي في وهم تاريخي عندما فاته التمييز بين الاستعمار الغربي الحديث ومن ورائه حضارته الرأسمالية الجديدة وبين الحملات الصليبية وإرثه العصور الوسطى، حيث ركزت اليابان على الطابع الرأسمالي للحضارة المعاصرة ، ثم استوعبت قيمها الحديثة وتلاقحت معها في سياق حضاري مشترك ، بعيداً عن أي توصيف ديني او ثقافي او جهوي ، بعكس ما يفعله الخطاب السلفي في العالم العربي والإسلامي حين يصر على توصيف الحضارة المعاصرة جهوياً (الغربية) او دينياً ( المسيحية ) !! يقيناً أن ثمة حاجة ماسة لمعالجة فجوة التخلف الحضاري التي يعيشها العالم العربي والإسلامي .. ولا يمكننا عبور هذه الفجوة إلاَّ بإكتشاف الإسلام في داخل هذه الحضارة التي أعطت الإنسان انجازات عظيمة ، ونقلت حياته الى مستوى متطور، حيث تعلق البشرية على منجزاتها العلمية والتقنية تطلعات مشروعة لتجاوز مشاكل الفقر والتخلف والمرض . مامن شك في أن التمسك بالخطاب الثقافوي الملتبس بالدين سيقودنا إما الى الإنعزال وبالتالي تعميق الفجوة الحضارية ، وإما إلى الخضوع لما يريده ورثة الخطاب الاستعماري في الغرب ، وهو خطاب ثقافوي أيضاً يسعى إلى فرض خيارين لا ثالث لهما : خيار الانعزال او خيار الخضوع بحسب سمير أمين !! لعل المطلوب هو إحياء فكر رواد التنوير وتطويره بعد إعادة قراءته بالنظر الى المتغيرات الهائلة التي حدثت في بنية الحضارة المعاصرة خلال القرنين الماضيين ، وتجاوزت بالضرورة محددات سؤال النهضة الذي طرحه رواد فكر التنوير في العالم العربي والإسلامي في القرن التاسع عشر ، لأن إحياء فكر رواد التنوير يؤهلنا لاكتشاف القيم الحضارية الحديثة ، وهي لا تتعارض بالضرورة مع القيم الإسلامية الصحيحة والأصيلة .. مع الأخذ بعين الإعتبار ان الحضارة الإسلامية أسهمت في صنع القيم الحديثة عبر سيرورة التحولات الحضارية . ولاريب في أن الثقافة السلفية البدوية التي ابتعدت عن جوهر الإسلام غير مؤهلة لاكتشافه داخل حضارة العصر ، ناهيك عن ان النزعة الماوضوية لهذه الثقافة كان لها دور كبير في وجود هذه الفجوة الحضارية، والحيلولة دون عبورها منذ طهورها في القرنين الخامس والسادس الهجريين ، اللذين يؤرخان لبداية تراجع الحضارة الإسلامية.. وعليه فان نقد هذه الثقافة يبدأ بإعادة الإعتبار للعقل الذي تعرض للعدوان والتغييب على يدها منذ حوالى تسعمائة عام !! وحين نعيد الاعتبار للعقل ورواده الأوائل، سيصبح بالإمكان التخلص من تأويل هذه الثقافة للإسلام، وهو تأويل عاد بنا الى ثقافة الجاهلية وابتعد كثيراً عن الإسلام . ولابد أن يتكامل هذا النقد مع نقد آخر موازٍ لمظاهر الخلل في الحضارة المعاصرة ، وهو الخلل الذي يغذي الكثير من الإختلالات المسؤولة عن غياب التوازن في ميدان انتاج واستهلاك الحضارة ، وتهميش غالبية شعوب وبلدان الكرة الأرضية ، ووقوع أكثر من نصف البشرية تحت خط الفقر , وتصاعد نزعات الهيمنة والسيطرة التي تسعى الى تكريس التبعية السياسية والإقتصادية والثقافية في العلاقات بين الدول والشعوب والثقافات , وصولأً الى بروز ميول خطيرة تتجه نحو مصادرة التنوع الثقافي عبر فرض بعد واحد للسياسة الدولية والحضارة العالمية . وحتى لا نخطئ الطريق يتوجب القول بأننا لسنا وحدنا من يهمه هذا النقد، فهناك أوساط أكاديمية وإجتماعية ودينية من الغرب والشرق تشارك على حد سواء في نقد مظاهر الخلل الذي يشوه بعض جوانب الحضارة الحديثة ، ولذلك فإن نقدنا لهذه الحضارة يجب أن ينطلق من الإيمان بالقيم الإنسانبة المشتركة لمختلف الثقافات والأديان والأمم التي يوحدها مصير مشترك .. بمعنى أن يتكامل نقدنا للآخر مع النقد الذاتي الذي سبقتنا إليه قوى حية في الغرب أسهمت وماتزال تسهم في نشر مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان والسلام والمساواة والتسامح الديني والتضامن الإنساني ، وتصدت وما تزال تتصدى لنزعات السيطرة والهيمنة والإلغاء ، وتدعوا الى الحفاظ على البيئة وحماية الطبيعة وإعلاء القيم الإنسانية المشتركة . خلاصة القول ان نجاحنا في النقد الإيجابي لمظاهر الخلل في الحضارة العالمية السائدة يتوقف على مدى نجاحنا في تأسيس رؤية ثقافية منفتحة على الآخر ، ومحفزة للعقل بوصفه أداة للتفكير الموضوعي والبحث العلمي ، الأمر الذي من شأنه أن يساهم في تطوير فهمنا للعالم والتفاعل مع متغيراته وتجاوز رواسب الجمود والتعصب والإنغلاق وغيرها من الكوابح التي تكرس الإقامة الدائمة في الماضي ، وتحول دون الخروج من فجوة الانقطاع الحضاري ، وصولاً الى الانتقال من ثقافة الهوية الى ثقافة المشاركة ، وهو المدخل الوحيد لمشاركة الشعوب والأمم والثقافات المختلفة في حراك الحضارة الإنسانبة المعاصرة . تأسيسا ً على ما تقدم يمكن القول بأن إجماع القوى السياسية على إدانة الإرهاب والتطرف من شأنه أن يفسح الطريق لبناء إصطفاف وطني ضد هذا الخطر الماحق ، وصياغة إستراتيجية وطنية شاملة لتجفيف منابعه ، وصولا ً الى بلورة مشروع وطني شامل لتحديث الدولة والمجتمع في مختلف ميادين السياسة والإقتصاد والثقافة والعلوم والإدارة والتعليم والإعلام على طريق الخروج من فجوة التخلف والإنقطاع عن إبداع الحضارة التي تهدد حاضرنا ومستقبلنا بأوخم العواقب . ان مستقبل الديمقراطية الناشئة في اليمن يتوقف على مدى النجاح في إنضاج المزيد من شروط نطورها اللاحق ، عبر مراكمة خبرات وتقاليد تؤسس لثقافة سياسية ديمقراطية ، وتمحو من ذاكرة المجتمع رواسب الثقافة الشمولية الموروثة عن عهود الاستبداد والتسلط ، بما تنطوي عليه من نزعات استبدادية تقوم على الإقصاء والإلغاء والتكفير والتخوين والزعم بإحتكار الحقيقة ، وعدم قبول الآخر ورفض التعايش معه ، الأمر الذي يفضي في نهاية المطاف الى تسويق مشروع استبدادي غير قابل للتحقيق بالوسائل الديمقراطية ، ويبرر بالتالي العدوان عليها من خلال استخدام العنف بوصفه الوسيلة الناجعة للإقصاء والانفراد .