اللغة عملة ابدية ازلية متداولة بين الناس واذا كانت الدول تنشئ القوانين وتسن التشريعات لحماية العملة من التزوير فمن باب اولى ان تصان اللغة من التدنيس والتدليس حتى لا يتعرض العلم والفكر الذي تحمله الى الافلاس واللغة العربية بإعتبارها مكوناً ارتكازياً من مكونات الثقافة العربية وعنوان هوية المجتمع العربي الاسلامي وقناة ايصال وتواصل بين الاجيال تنقل آثار الاجداد الى الابناء وتحفظ امجاد الابناء للاحفاد تعتبر ضرورة لبناء مهارات التواصل الانساني وهي محورية واساسية في منظومة الثقافة لارتباطها بجملة مكونات من فكر وابداع وتربية وتراث وقيم المجتمع العربي الاسلامي. ومع ما تمتاز به هذه الحقبة من تفجرعام في تكنولوجيا الاعلام والاتصال استحال بموجبها العالم الى قرية صغيرة يسعى فيها الاقوياء تكنولوجيا واعلامياً الى فرض لغتهم على الآخرين يجدر بنا التساؤل عن واقع استخدام اللغة العربيةفي وسائلنا الاعلامية المرئية قبل الحديث عن آفاقها المتوقعةفي ظل التحولات المتهافتة على جميع الاصعدة محلياً واقليمياً وكونياً. الاهمية الاجتماعية للغة تحظى اللغة في اي مجتمع بأهمية بالغة بالنظر الى الدور الذي تمارسه في التواصل الاجتماعي فهي عالم رحب ووطن فسيح يمارس من خلاله الانسان حرية التعبير والتفكير، فاللغة رداء الفكر ولباسه، وكل تطور يحصل في المجتمع يتردد صداه من خلال مؤسسة اللغة بإعتبارها الناطق الرسمي بإسم الامة والمعبر عن حياتها ولذلك تعتبر اللغات اصدق سجل لتاريخ الشعوب.. لأنها اداة الحاضر وصورة التاريخ ومنها تقتبس الالوان الحضارية والاجتماعية الدالة على مجاري الامور ومصائر الاقوام العربية ليست بدعاً من اللغات وانما هي اصدقها شاهداً على هذا الانعكاس والتأثر«1» وعليه فاللغة العربية اولى من غيرها بموفور الرعاية وبالغ العناية لانها حاملة كلام الله وحاضنة تراثنا الغني وناقلة تاريخنا المجيد الى الابناء والاحفاد، فهي الجسر الذي يصل بين الاجيال والحضارات المتعاقبة، وبالنظر لهذا الدور الذي تضطلع به اللغة العربية لابد من توليها بالتحديث والتطوير حتى تكون دائماً في مستوى التحديات التي يحفل بها العالم المعاصر. ومن ثمة فحياة اللغة العربية وحيويتها رهن استعمالنا لها وقدرتنا على توسيع مجالها وحملها على الاستجابة لحاجاتنا لا يتوفر إلا بقدر ممارستنا لها وتحميلها لتجارب بشرية جديدة وابقاؤها لغة تواصل بين كل العرب رهين جمعنا لشتات معطياتها وتجسيمها في وسائل عمل متجددة وسعينا المتواصل على متابعة تطورها وتعهده«2». ولعلّ خير توصيف لأهمية اللغة ما قاله في حقها شاعر صقلية «اجنازيو بوتيتا» إن الشعوب يمكن ان تكبل بالسلاسل وتسد افواهها وتشرد من بيوتها ويظلون مع ذلك اغنياء، فالشعب يفتقر ويستعبد ما ان يسلب اللسان الذي تركه له الاجداد عندئذ يضيع الى الابد فأي امة لا تستطيع البقاء دون لسان يعبر عن ذاتها.. فبوساطة اللغة يتم توصيل ما تفكر فيه الذات داخلياً الى موضوع يعيه من هم بخارجها فاللغة هي الرابطة الوحيدة بين عالم الاجسام وعالم الاذهان ومن هنا يصح القول بأن الانسان جسم وروح ولغة فمسلسل الحياة اليومية لا يمكن كتابة حلقاته وتصميمها بشكل مترابط في غياب لغة تشكل اداة التفاهم والتواصل والتفاعل مما يجعل من اللغة ضرورة حضارية ولازمة انسانية وظاهرة اجتماعية لا يمكن الاستغناء عنها في صيرورة حياة المجتمع مما يقتضي بذل مزيد من الجهد والعناية لجعل اللغة تستجيب لحركية التحولات التي يشهدها راهن المجتمع العربي. 2- اللغة العربية في وسائل الاعلام المرئية: اذا كانت اللغة تعني حسب تعريف ابن جني لها «مجموعة اصوات يعبر بها كل قوم عن اغراضهم فهل يكفي رجل الاعلام ان يظهر على الشاشة ويتحدث حتى يفهمه الجمهور؟ ذلك ان كثيراً من وسائل الاعلام المرئية كانت تعتقد واهمه ان الجمهور يفهم رسائلها في حين ان العكس هو الصحيح وعليه فمهما» اختلفت لغة وسائل الاعلام فإنها تخضع لحقيقة بسيطة وهي الوضوح والدقة والمباشرة«3» على الرغم من ان العربية تعد اللغة الاولى في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، غير ان واقعها على مستوى الممارسة الفعلية (من خلال الحوار والانتاج الفكري)، يتقهقر الى آخر السلم لتأتي بعد اللغة اليونانية التي لا يتكلمها الا حوالى 10 ملايين! ومع تنامي وسائل الاتصال وسعة انتشارها، وكثرة الاقبال عليها، ولا سيما منها وسائل الاعلام المرئية، ازداد التوجس من مغبة تحول هذه الوسائل -بما تملكه من نفوذ جماهيري- الى معاول تنسف اللغة، وتفسد استقامة اللسان، وتهوي بالذوق اللغوي الى الحظيظ. لا سيما اذا كان التلاميذ يقبعون أمام جهاز التلفزيون اكثر مما يجلسون فوق مقاعد الدراسة، فمع اكمالهم مرحلة الدراسة الثانوية يكون التلاميذ قد قضوا 20000 ساعة مشاهدة في مقابل 15000 ساعة في المدرسة، ومع اغراءات الوسيلة الاعلامية تقيم جسراً متينا مع هؤلاء تتسلل من خلاله قيم معرفية عديدة، قد تؤدي الى ازاحة ما تقدمه المدرسة أو على الاقل مزاحمته. وفي حديثه عن وظيفة التلفزيون في المجتمع، يحذر الباحث «رينيه شنكر» من مغبة انحراف التلفزيون عن دوره واسهامه في فساد الذوق اللغوي حيث يقول: على التلفزيون ان يأخذ بعين الاعتبار انه وسيلة ترفيه، بالاضافة الى غايات اخرى، انه في هذا المجال وفي المجالات الاخرى يخترع لغة محادثة غير طبيعية تؤثر حتماً في سلامة اللغة الكلاسيكية التي نتعلمها في المدارس. فاللغة في التلفزيون تتعرض يومياً لموجات من التشويه والتحريف، والواقع ان لغة التلفزيون في شتى البرامج والافلام تخترق حرمة اللغة الخاصة التي يكونها كل انسان لنفسه وتتكون فيه من خلال عائلته وبيئته ووطنه (4). والحقيقة انه لا يطلب من رجل الاعلام ان يتحدث الى الجمهور بلغة سيبويه، بأن يبالغ في التقعر والتفاصح، وانما اقصى ما يطلب منه هو احترام قواعد اللغة والمعايير المنظمة لها، مما يضفي على اسلوبه مسحة من الاناقة والجمالية، وينأى به عن الاسفاف والرداءة والقصور، وعليه يجدر بمن يتصدى لمهنة الاعلام ان يحسن التقدير في ابلاغ رسالته الى الجمهور بحيث يوصل محتواها الى المتلقي دون التجني على اللغة تطرفاً او قصوراً غير ان هذا لا يعني ان في امكان محبي اللغة العربية، وهم كثر كما نعتقد في طول العالم العربي وعرضه، السكوت دائماً عن تلك المجزرة اليومية التي تنحر اللغة العربية في كل ساعة ودقيقة على الشاشات الصغيرة، في معظمها، ان لم يكن في مجملها، او عن تلك المجزرة الاخرى التي تطاول ابسط المعلومات وبعض البديهي منها، في برامج عدة يتحدث فيها مقدموها، او المشاركون في تمثيل حلقاتها بلغة ذات أداء سيئ او منحرف، كما في كلام مقدمة احد برامج الاطفال على شاشة المؤسسة اللبنانية للارسال الذي يصطبغ بلهجة مطاطة ومتعثرة تعبث بلفظ الحروف وتراكيب الكلمات، وتخلط دون مبرر، بين العربية والفرنسية والانجليزية. ويقينا ان هذه العجالة لا يمكنها ان تحصي اخطاء تعد بالمئات في كل يوم، من نصب الفاعل، الى جر المفعول، به، الى اعتبار كل كلمة حالاً وتمييزاً، الى رفع المضاف والمضاف اليه، ناهيك بالكوارث التي تحل بالمبتدأوالخبر وما الى ذلك(5) ويصبح الخطر اكثر عندما نعلم ان مجتمعاتنا تكثر فيها نسبة الأمية وتقل فيها نسبة المقروئية، وفي غياب فضاءات التثقيف والترفيه في الغالب يظل التلفزيون القبلة شبه الوحيدة التي تمتص وقت فراغ المشاهد. ويجدر بنا في هذا المقام الاشارة بمرارة الى دور الكثير من الفضائيات المحسوبة على العربية التي لا زالت تحاول جاهدة ان تكتم ما تبقى من انفاس اللغة العربية لترديها ذبيحة على سطورها المشبوهة والتي باتت لا تمت اليها بصلة، وحينما تموت لغتنا لن يصلي احد عليها الجنازة ولا الوحشة اذ الصلاة لا تجوز الا باللغة العربية!! فرغم الوعي بالحاجة الى اهمية تجديد الصيغ الاعلامية وجعلها متناسبة مع التطور التقني المهول لوسائل الاتصال وتنوعها، فإن الوعي باللغة لا يختلف عن الوعي بالحرية، او الوعي بالآخر..(6). وقد اشارت احدى الدراسات التي حاولت رصد دور بعض البرامج التي تبثها بعض الاذاعات والتلفزيونات العربية في تلبية احتياجات الاطفال الى ان: اللهجة العامية هي الغالبة على البرامج الموجهة للطفل، يليها استخدام لهجة تجمع بين الفصحى والعامية، مما يشير الى ان برامج الاطفال لا تسهم بدورها المفروض في الارتقاء بالمستوى اللغوي للاطفال(7). وفي دراسة اجريت على عينة من الشباب الجامعي حول دور الفضائيات العربية في نشر الثقافة العربية،ذكر نسبة (45٪) من المبحوثين ان القنوات الفضائية العربية ادت الى تخريب الذوق اللغوي العربي من خلال استعمال العامية الفجة، ومسلسل الاخطاء اللغوية الشائعة والمتكررة، والتوظيف السيئ لا سيما البرامج، اضافة الى ضعف مستوى مقدميها. وفي ذلك بيان كاف على ان وضع اللغة العربية على شاشات الفضائيات العربية غير مريح ولا يبعث على الامل الا ماندر حيث نجد بين الحين والاخر محاولات تثلج الصدور لكنها تتسم بالظرفية وتفتقد عامل الاستمرار ومن امثلة البرامج التي ساهمت في التعريف بالكثير من قضايا اللغة والادب العربيين نذكر برنامج افتح يا سمسم، مدينة القواعد، لغتنا الجميلة، كلمات ودلالات، فرسان الشعر...إلخ من البرامج التي صالت بالمشاهد وجالت في بحر اللغة العربية وشواطئها الجميلة، ولعل هذه المبادرات الخلاقة تستدعي الاشادة والتنويه وتستنهض هممنا للمطالبة بمزيد من المشاريع الانتاجية بغرض سد الثغرات وتجاوز النقائص وهو امر يتطلب تظافر الجهود الغيورة على اللغة العربية رسمية كانت او شعبية اضافة الى التنسيق المحكم بين الفضائيات العربية وتوحيد جهودها الاعلامية خدمة للهدف المشترك، وهو النهوض بالثقافة العربية وجعلها مواكبة للتحولات ومواجهة للتحديات التي يفرضها عصر العولمة.