هناك أفكار مسبقة غير واقعية لدى بعض الفئات العراقية عن الجامعة العربية وسعيها الى مؤتمر للمصالحة الوطنية العراقية. من ذلك مثلاً الاعتقاد بأن الأمين العام للجامعة جاء الى بغداد مندوباً عن الارهابيين الذين يقطعون رؤوس الرهائن ويرسلون السيارات المفخخة والانتحاريين لقتل المرشحين لدخول الجيش والشرطة. فلو عرف هؤلاء العراقيون اولئك الارهابيين لعرفهم الأميركيون وبالتالي الجامعة، ولأمكن «التعامل» معهم لإزاحتهم من درب المصالحة والاستقرار في العراق. مع ذلك، ينبغي لأي عراقي مسؤول يطمح الى اقامة السلم الأهلي في بلده ألا يسقط من حسابه حتى محاورة الارهابيين اذا كانت في ذلك مصلحة وطنية. ففي الولاياتالمتحدة نفسها، وهي الدولة العظمى التي تقود الحرب على الارهاب، كثرت في الآونة الأخيرة دعوات مراكز البحث والتفكير الى الاتصال بالارهابيين ومحاورتهم، بعدما بذلت الآلة العسكرية والماكينة الأمنية كل ما تستطيعه وحققت نجاحات لكنها بقيت قاصرة عن بلوغ الهدف المرسوم، أي انهاء ظاهرة الارهاب. في أي حال، لم يذهب الأمين العام للجامعة الى العراق كمبعوث من الزرقاوي، أو حتى من «بقايا البعث»، وانما بتكليف عربي تبنته الدول المجاورة للعراق. ولم يعفه عنوان مهمته - المصالحة - من سماع الانتقادات لدور الجامعة ومواقفها خلال العهد السابق. فمن الأفكار المسبقة التي شهرها العراقيون الجدد في وجه موسى، ان الجامعة كانت مؤيدة ومتعاطفة مع صدام حسين ونظامه، ولم تلتفت يوماً الى معاناة الشعب من ظلم هذا الحاكم وإجرامه. طبعاً هذه انتقادات محقة ومشروعة للجامعة العربية، لكنها تتجاوز الصلاحيات التي منحتها الأنظمة العربية للجامعة ولأمينها العام، وتلك الصلاحيات هي صيغة بل خلاصة الحد الأدنى من التوافق العربي على حدود التدخل المتاح للجامعة. وهكذا فإن الجامعة التي تعاملت مع نظام صدام وقبلته بخيره وشره، كما تعاملت مع سائر الأنظمة، هي نفسها الجامعة التي تتعامل الآن مع النظام الناشئ في العراق وتقبله بخيره وشره. لكنها تخالفه في بعض المنطلقات كأن تتمسك برفضها لواقع الاحتلال الاميركي ظناً منها - عن خطأ أو صواب - أن هذا الرفض هو أيضاً موقف مبدئي عراقي، إلا أنه بالتأكيد موقف مبدئي دولي قبل أن يكون عربياً. ومنذ نشوء النظام الجديد في العراق كان له مندوبون في اللقاءات العربية كافة، وكانوا هم الذين يصيغون الموقف العربي مما يجري في العراق، ولم يحدث أي خلاف يذكر، فالعرب تكيفوا مع الضغوط الاميركية بمقدار ما كانوا يفسحون في المجال للنظام الجديد كي يبني نفسه ويتبلور ويحتل مكانه الطبيعي في مجموعتهم. لعل المرة الوحيدة التي حصل فيها اشكال كانت في سياق كتابة الدستور الجديد، ومحاولة القوى المهيمنة على الحكم العراقي ان تلغي الصلة العربية بالعراق. كان الإشكال «تقنياً» قبل ان يكون سياسياً و «قوميا»، إذ وجدت الجامعة أنها في صدد دولة تريد ان «تدستر» قطيعة مع العرب والعروبة، وبالتالي كان عليها ان تسأل وتستفهم وتستوضح اذا كان عراق الدستور الجديد يرغب أو لا يرغب في الاستمرار في الاسرة العربية. ولم يكن في امكان الجامعة ان تفرض ارادتها على العراقيين الجدد، وانما كان من واجبها ان تنبههم، ولو شاؤوا المضي نحو «القطيعة» لما استطاعت منعهم. وحتى الصياغة - التسوية للبند المتعلق ب «عروبة» العراق لا يعني ان المسألة حسمت فعلاً. لكن هذه الصياغة هي التي سمحت للوزراء العرب المجتمعين في جدة ان يقرروا إيفاد موسى الى بغداد. ولولا وجود اقتناع أميركي قوي بالحاجة الآن الى دور عربي لما كانت هذه المهمة لموسى، ففي المرحلة السابقة كانت هناك بالأحرى رغبة أميركية قوية في استبعاد العرب، وهي رغبة تلاقت مع رغبات العراقيين الجدد. أما وقد تعقد الوضع، وبدا واضحاً للأميركيين ولغيرهم ان لا الدستور ولا الانتخابات (إذا تكررت على نمط انتخابات 30 كانون الثاني/ يناير الماضي) ولا الحكومة المنبثقة منها لن تغير شيئاً في الوضع العراقي المضطرب، فقد ظهرت الحاجة الى مصالحة، وأصلاً لم يكن للجامعة العربية ان تعود الى العراق إلا من باب المصالحة. وهذه ليست سوى بداية، فالأصعب لا يزال في الطريق، لأن أعداء المصالحة كثر. لكن يؤمل بأن تكون زيارة موسى حققت على الأقل مصالحة بين العراقيين الجدد والجامعة العربية. الحياه