منذ أربعة عشر عاما والأمريكيون يروجون للإستراتيجية العظمى للولايات المتحدة والتي تهدف إلى تغيير جذري لمنطقة الشرق الأوسط في العراق ومصر وسوريا والسعودية. ويبدو اليوم بأن السعودية أصبحت قاب قوسين أو أدنى من بؤرة الإستهداف الأمريكي لأنها الدولة الوحيدة المتبقية في المخطط الأمريكي. تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب المتوالية والممارسات الأمريكية سياسياً وإعلامياً تجاه المنطقة مؤخراً والسعودية تحديداً كلها دلائل وقرائن تشير، إذا ما تم جمعها وربطها مع بعضها البعض ، إلى أن السعودية هدف يراد دفعة بأسلوب ووسائل أمريكية تجاه مستقبل مليء بالعقبات والخيارات الصعبة على المستوى الإقليمي من الناحية الجيوسياسية، أو المستوى الشعبي المحلي لخلق نوع من الفوضى “الخلاقة” التي يشكل الإرهاب الحلقة الأخيرة قبل الإسقاط. والغاية الأمريكية هي: (1) سياسة أكثر ليبرالية تجاه المصالح الأمريكية فيما سمي (بحلب البقرة) وأكثر قمعاً للمتشددين القوميين والإسلاميين في الداخل وخلق عداوات مع معظم دول الإقليم تمهيدا لتهيئة الملعب . (2) حل المعضلة الأمنية الإسرائيلية في عدد من القضايا..والدفع باتجاه التقارب السياسي نحو التطبيع... والمعروف أن سيناريو التفكيك بدأ في العراق الذي تحول بفعل ذلك من دولة ضامنة لامن المنطقة الى دولة باتت مسرحاً ومصدراً للإرهاب، ولا ننسى خطة جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي في منح الأكراد الاستقلال. يجب أن نتذكر أيضاً، مصطلحات أطلقتها أمريكا مثل: الشرق الأوسط الكبير، والشرق الأوسط الجديد، والفوضى الخلاقة. ثم حقبة (الربيع العربي)وهي مصطلحات تحولت إلى عمل استراتيجي تم تنفيذه وما حدث لدول وأنظمة تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا يؤكد أن المخطط الأمريكي يسير بكل دقة، ولم يتبق منه سوى السعودية. 2- تأجيل استهداف السعودية مبكراً هو بقصد نضج تنفيذ المخطط الأمريكي لتعديل البيئة الإقليمية. فالسعودية تملك ما يطلق عليه القوة غير الملموسة وهي القوة الروحية وتتمثل في وجود الكعبة المشرفة، بيت الله الحرام قبلة المسلمين الذين يقارب عددهم (1.5) مليار نسمة متوزعين في كل دول العالم بنِسَب متفاوتة يتوجهون في صلواتهم خمس مرات يومياً باتجاه القبلة، مما يجعل من أي إرباك سياسي أو ارتباك محلي للسعودية وبالاً على الاستقرار في العالم وتهديداً للمصالح الأمريكية، ولذا كان التأجيل لاكتمال المعطيات الأخرى. وهي ذات المخاوف التي صاحبت معظم القوى الاستعمارية في التاريخ الحديث للنأي بنفسها عن الأماكن المقدسة في الجزيرة العربية. ولهذا جاء تفكيك السعودية في آخر القائمة الأمريكية بعد نجاح المخطط ضد الدول الفاعلة والمؤثرة في محيط السعودية (بدعم سعودي) وتحويل الخطر ضد الإرهاب، وتأليب العالم ضد الإسلام، وداعش وعقيدتها، ومصادر تلك العقيدة. بعد الاحتلال الأمريكي للعراق الذي جاء بعد لغز أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بات الإرهاب والإدعاء بمحاربته في سلم الأولويات للإستراتيجية العظمى للولايات المتحدة بصرف النظر عن الإدارة أو الحزب الحاكم في واشنطن، مما غيّر في أس النظام الدولي والعلاقات الدولية بسبب ولادة عنصر جديد في مفهوم الحرب وتكوين الجيوش القائمة ، وبدء عصر جديد من الحروب غير المتماثلة.. ولذا شهدنا تنامى تنظيم القاعدة ثم تحوّل الأمر إلى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” التي باتت لغزاً عالمياً من حيث نشأتها وزمانها ومكانها وتمددها لكي تتوافق مع أكثر من (37) تنظيما إرهابيا في العالم بحسب تصريح (بان كي مون) الامين العام السابق للأمم المتحدة وهو ما شكل كابوسا أمنيا للعالم. 3-استثمار الفوضى التي نتجت عن احتلال العراق بأساليب متعددة وبوسائل منها انتشار الإرهاب بصورة محسوبة بدقة في الإستراتيجية الأمريكية، ولذا يجب ألا نهمل اعتراف هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية سابقا أمام الكونغرس بأن الإدارة الأمريكية هي من أنشأت القاعدة، كما لا يجب أن نمر مرور الساذجين على تصريحات دونالد ترامب بأن أوباما وكلينتون هما من أنشأ داعش. والأهم أن نربط بين الانطلاق من العراق في المهمة الأمريكية لتفكيك الشرق الأوسط وصولاً إلى السعودية !!؟؟ الحجة المعلنة هي محاربة الإرهاب التي بدأت بإسقاط العراق ، ثم الفوضى ، ثم تساقط الدول العربية الفاعلة في المنطقة ، ثم القاعدة، فداعش، وهنا تأتي أهمية داعش لارتباط اسمها بالإسلام ، ثم التطرف الديني، فاستعداء الوهابية، للوصول إلى السعودية موطن آخر الأنبياء وبلاد الحرمين . كما أن الزوابع التي تثيرها الصحافة الأمريكية من وقت إلى آخر بمساعدة الكونغرس حول الإرهاب وأحداث سبتمبر ونشر صفحات ظلت غامضة ثلاثة عشر عاماً ليست إلا نقاط مهمة حتى لو كانت صغيرة في مخطط أكبر. يشكل العراق أهمية قصوى للإستراتيجية الأمريكية ، من الناحية الجيوسياسية سنحاول تبسيط شرحها. كان استهداف العراق واحتلاله وإسقاط نظامه وتفكيك الدولة والمؤسسات فيه، المفتاح الذهبي للإستراتيجية الأمريكية لأن العراق مشترك في ثلاث منظومات رئيسية في المنطقة شكلت شيئاً من التوازن. يشترك العراق في النظام الخليجي مع إيران والسعودية ليشكلوا مجتمعين نظاماً ثلاثي الأقطاب ، وبسقوطه يتحول النظام الخليجي إلى ثنائي القطبية بين السعودية وإيران مع ما يصاحب ذلك من تنافس وتناحر واستقطاب. كما شكَّل العراق القطب الثالث في النظام العربي أما مع مصر وسوريا حقبة من الزمن ، أو مع السعودية وسوريا في الحقبة التي تلتها، وبإسقاط العراق اختل النظام العربي. يتبقى النظام الشرق أوسطي الذي يشكل توازنا بين الثلاث الدول التي تشكل النظام العربي مع ثلاث دول غير عربية هي: إيرانوتركيا والكيان الصهيوني ، وباختلال النظام العربي يختل بالضرورة التوازن في النظام( الشرق ..أوسطي.) من المهم الإشارة إلى أن النظام ثلاثي القطبية هو الأكثر أمناً وسلماً واستقراراً حسب الدراسات ونظرية (كينث والتز) حول القطبية. يرى البعض أن السعودية وإيران يشكلان القطبية الثنائية في النظام الخليجي مع كل تبعات ذلك أو تناقضاته وهي قطبية مختلة لصالح إيران . غير أن سطوة المال السعودي وغياب العراقوسوريا ومصر، جعل من النظام العربي أحادي القطبية وأضحى النظام الشرق أوسطي الجديد رباعي القطبية يتشكل من السعودية وإيرانوتركيا والكيان الصهيوني ولو مرحليا. 4-هذا الواقع دفع بتركيا إلى تحسين العلاقة مع (الكيان الصهيوني ) ، ودفع بإيرانوتركيا إلى التقارب ، ودفع السعودية باتجاه إسرائيل. هذه النتيجة الجيوسياسية حسب الإستراتيجية الأمريكية ستضع السعودية في مأزق. الخصومة السياسية بين السعودية وإيران التي تعاظمت مؤخراً بسبب ما تراه السعودية محاولات إيران لتوسيع مجالها الحيوي، وخلق منطقة عازلة تجاه عدد من الدول العربية. ويسوق النظام السعودي أنه من يقوم لوحده بحماية النظام العربي ولهذا يسعى الى إذكاء نار الخصومة السياسية بين (القطبين) في الخليج، حتى ولو لبست مظهراً طائفياً أو عرقياً. كما أن البرود السياسي بين الرياض وأنقرة مؤخراً والذي زادت تداعياته بعد مقتل خاشقجي .والانفتاح (الإسرائيلي) للسعودية يشير إلى التغيير المنشود في الشرق الأوسط وفق الرؤية الأمريكية. يكمن المأزق السعودي الذي خططت له الإستراتيجية الأمريكية ، في أن الخيارات المتاحة أمام السعودية ضيقة، وصعبة، وعسيرة، ومحفوفة بالمخاطر وخصوصا مع استمرار عدوانها على اليمن والمأساة الإنسانية التي نتجت عن ذلك. تواصل السعودية حربها الإعلامية والسياسية تجاه إيران وتسوق لذلك بأن إيران تعبث بالمنطقة كما تشاء في ظل غياب نظام عربي فاعل. كما أنه من العسير على إيران ، من ناحية ثانية أن تنزعج من التقارب السعودي مع إسرائيل ولو مؤقتاً على الأقل. ويصعب على السعودية، من ناحية ثالثة ، الاندفاع العلني نحو إسرائيل والتقارب معها لأسباب محلية وإقليمية ودينية خصوصاً وأن إسرائيل لم تتخذ أي خطوة ملموسة تقابل المبادرة العربية للسلام التي انطلقت من السعودية، بالرغم من لقاءات سعودية إسرائيلية بشكل غير رسمي حدثت على طريقة “لم آمر بها لكنها لم تسؤني”. ولذا فإن المستهدف من الإستراتيجية الأمريكية هو الدفع بالسعودية تجاه إسرائيل مع كل ما قد يصاحب ذلك من ارتباك شعبي في السعودية وقد يؤدي إلى فوضى “خلاقة” تديرها الولاياتالمتحدة. 5- أخيراً، السعودية مقبلة على حقبة خطيرة ومريرة في صراعها الإقليمي يتطلب منها الملاحة بين المرتفعات والمنحدرات السياسية بكل حذر. فإعادة تشكيل التحالفات التي ظهرت مؤخراً في المنطقة بين تركياوإيران ، وتحوّل وتذبذب الدور الأمريكي بعد الانسحاب من سوريا وتعاظم الدور الروسي ، وتقلص الدور الأوروبي ، وتغيّر المزاج الإستراتيجي العالمي لمصلحة النظام السوري ، وتشدُّد وتعقد الأزمة في اليمن مع استمرار التدخل السعودي ؛ كل ذلك يفرض على السعودية خيارات صعبة ما يتطلب إعادة صياغة أولوياتها الإستراتيجية وتحالفاتها، لكي تتصف بالمرونة والحذر والحكمة ، فالمستهدف هو بقاء ووجود السعودية بأكملها. ختاماً، يقول المثل الشعبي “نصف الحرب صياح” يقابله في الغرب مصطلح “بروباغندا الحرب”، ويمكن أن يكون خفض صوت (صياح الحرب) بداية جيدة لإستراتيجية جديدة. { رئيس تحرير مجلة الجيش