واصفا بانه اخطر عدوان واسوء غزو تعرضت له اليمن في تاريخها من حيث الجرائم المروعة والتدمير الممنهج ونهب لثروات وطمس للهوية وتحويل اليمن لدولة تابعة للغزاة . كانت اليمن في أواخر عصورها القديمة تمثل إحدى حلقات الصراع العالمي نتيجة لموقعها المهم بين القارات ولذا كان حقيقة الصراع بين اليهودية والمسيحية فيها لم يكن سوى تجسيد للتنافس البيزنطي - الفارسي من أجل السيطرة على أهم مفاصل المواصلات التجارية العالمية في جنوبالبحر الأحمر . تحطيم اليمن مع التحرر الوطني الأول من الاحتلال الحبشي نهاية القرن الثالث الميلادي عادت اليمن موحدة تحت حكم قيادة وطنية حميرية عملت على بناء دولة قوية تميزت بالنظم والقوانين بصبغة حضارية مزدهرة . وقد حكم اليمن ملوك أقوياء استطاعوا أن يستعيدوا مكانة اليمن الاقتصادية والعسكرية في العالم القديم . كما بدأوا في بناء دولة حديثة تمكنت من فرض تواجدها على الساحة الدولية في كافة الاصعدة وبالذات في المجال التجاري والتعامل مع عظمى الأمبراطوريات الفارسية والبيزنطية آنذاك . وكان لابد لدولة حمير اليمنية وسط مختلف الأخطار المحيطة بها أن تسعى لتعزيز قواتها العسكرية لتغدو دولة حربية تستطيع أن تحمى السيادة الوطنية لليمن .فكان الاحتلال الحبشي الثالث سنة 525 م يهدف في الأساس إلى تحطيم مكانة اليمن الدولية وتحويل طرق التجارة وخطوطها من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي للبحر الأحمر . وتمكنت تلك الحملة التي سارت تحت ستار الدين بحجة حماية مسيحي نجران من القضاء النهائي على استقلال اليمن وحريتها بعد أن قضت على تجارتها وحضارتها وعرضت وحدة اليمن للتمزق والانقسام والتجزئ . وبهذا تحول الصراع الفارسي - البيزنطي من شمال الجزيرة العربية إلى جنوبها ومحاولة البيزنطيين عدم الزج بقواتهم وجيوشهم في حروب لا يعرف أحد نتائجها لذلك دفع البيزنطيين بأعوانهم وانصارهم مقحمين الأحباش بتلك الحروب لتحقيق مصالحهم في جنوب الجزيرة العربية وخاصة بعد فشل حملتهم وغزوهم الأول لليمن سنة 24م . الغزو الثالث بعد تمكن اليمنيون من طرد الغزاة الأحباش من اليمن في المرة الأولى عملوا على بناء دولة قوية غير أن الحال لم يستمر طويلا لتعود اليمن إلى الصراعات والحروب الداخلية ، كل ذلك شجع الدولة الأكسومية لأستئناف عدوانها المتكرر على اليمن بقصد إعادتها تحت نفوذها حيث قام الأحباش ما بين القرن الرابع الميلادي حتى مطلع القرن السادس بست محاولات لغزو اليمن لم تتجاوز في خمس منها تهامة والسواحل الجنوبية ، مما مهد للأحباش احتلال اليمن في المرة السادسة والأخيرة فقد استولوا في سنة 525م بدعم الأمبراطورية البيزنطية على التهائم والسواحل الجنوبية وتقدمت نحو صنعاء ومأرب وسيطرت عليهما وبذلك توسعت واحتلت اليمن كاملا . ولم يستتب لهم الأمر بل واجهوا مقاومة وطنية يمنية ولم يمضى سبعة وأربعون عاما إلا وضيق اليمنيون على المحتلين الأحباش والبيزنطيين الرقعة والسلطة وأخرجوهم من صنعاء ومأرب ومناطق الشمال كاملة ولم يبق للمحتلين الغزاة وجود إلا في عدن والسواحل الجنوبية والشرقية وحضرموت حتى قضى عليهم التبع اليماني سيف بن ذي يزن عام 575م لتتخلص اليمن من الغزو الحبشي بعد نصف قرن . التسامح الديني اتسمت سياسة ذو نواس مع المسيحية و الوثنية على اساس سياسته القائمة على التسامح الديني وحرية الاعتقاد وهذه سياسة كانت منطقية وتهدف إلى خلق وحدة وطنية داخلية لا تضر بالسيادة الوطنية ومصالحها . في حين كان يرى إلى الاخطار والمطامع الخارجية المحدقة باليمن فبالرغم من عدم اعتناق الأحباش للمسيحية حتي ذلك الوقت لكنها كانت تريد غزو اليمن تحت شعارات الصليب . من جانب أخر كانت الأرستقراطية النجرانيةاليمنية التى ارتبطت بالأحباش والرومان بصلات قوية قد ساءها سياسة ذو نواس المرتكزة على مركزية السلطة واستعادة هيبة الدولة والتسامح الديني لهذا أخذت تسعى لتحويل مدينة نجران إلى مركز للمؤامرات الداخلية بهدف زعزعة الأمن والنظام وإشاعة الفوضى في ربوع اليمن وهذا مما لا ترضاه القيادة الحميرية حيث أصبحت نجران بمثابة قاعدة حربية تستطيع مناوأة القوات الحميرية . في حين كان ينظر ذو نواس إلى أن انتشار اليهودية في اليمن نظرة لا يرافقها أي خطر سياسي لأنه لم تكن هناك دولة خارجية تحمى وتدعم اليهود . ورغم ما اشيع من قسوة ذو نواس على النصارى لكنه لم يعرف عنه أنه قسا على الوثنية اليمنية بل ظلت الوثنية قائمة في اليمن حتي ظهور الإسلام مما قد يستدل منه أن قسوته على النصارى لم تكن بدافع العصبية اليهودية بل بدوافع وطنية لأن الوثنية أحرى بنقمة ذو نواس من النصرانية . رمز لتدخل الأجنبي ترى الكثير من الدراسات ( أن نشر الدين أمر ثانوي في جميع الحركات التبشيرية .... فالمبشر يسبق الجيش إلى كل مكان ) لذلك كان تحول ملوك اكسوم إلى المسيحية إيذانا بتقاربها مع بيزنطة حامية نصاري الشرق ولتحقيق اهدافهما المشتركة في اليمن . فالحقيقة أن الأحباش أرادوا احتلال اليمن لأسباب اقتصادية - سياسية دون أن يضعوا في اهدافهم أي اعتبارات دينية لهذا الغزو . وخاصة بأن الأحباش حتى هذا التاريخ لم يكونوا قد اعتنقوا المسيحية فلقد كان ملوك الحبشة وثنيين حتى القرن الرابع الميلادي ويعتقد أن الملك الحبشي (عزانا ) هو أول ملوك الحبشة اعتنقوا المسيحية لذلك فإن غزوهم لليمن لم يكونوا بدوافع دينية بل طمعا بثروة اليمن وموقعها الاستراتيجي . لذا اتخذت الأمبراطورية البيزنطية ودولة اكسوم من الدين وسيلة لنشر وتغلغل نفوذهما في المنطقة اليمنية فقد وجدت النصرانية طريق لها إلى اليمن في غضون القرون الأولى من الميلاد عبر التجار وعن طريق الروابط التجارية وكانت منذ البداية مرتبطة ببيزنطة مباشرة حيث تحول جزء من مشاهير واقيال حميريين إلى المسيحية . وفي القرن الخامس الميلادي قويت علاقات هؤلاء الأعيان سياسيا مع بيزنطة والحبشة وعزز ذلك تسامح دولة حمير في بناء واقامة كنائس مسيحية في مدن يمنية مما قوى علاقات نصارى اليمن وبالذات بمدينة نجران مع الحبشة وبيزنطة . لذلك اعتبر ذو نواس بعد صعوده لسلطة أن هؤلاء المبشرين رمز لتدخل الأجنبي في اليمن . فما بين عام 510- 515 م انطلقت جيوش الدولة الحميرية بقيادة الملك ذو نواس وقضت على دولة ظفار المسيحية ومن كان باليمن من الأحباش ودمرت وأحرقت كنيسة ظفار . الطابور الخامس كان الأحباش والبيزنطيين تواقين لنشر النصرانية في اليمن ولذلك فقد قاموا بإرسال مبشرين إلى الأراضي اليمنية بغية كسب انصار جدد للنصرانية وبدأ هؤلاء المبشرين يكونوا جماعات وأنصارا من المتواطئين اليمنيين والعملاء الذين يدينون بالولاء للحبشة وبيزنطة قبل ولائهم لحكومتهم ودولتهم اليمنية الحميرية واستغل الأحباش والبيزنطيون هؤلاء النصارى في التخريب والتجسس لصالحهم والحقت بالدولة الحميرية أضرارا فادحة وخسائر كبيرة نتيجة لأعمال التجسس والتخريب التي يقوم بها عملاء الاحباش المندسين فلقد أنشاء الاحباش طابورا خامسا يعمل لصالحهم ويدين لهم بالولاء والطاعة مما هدد الأمن القومي لدولة الحميرية اليمنية وعرض استقلالها وسيادتها للخطر . وكان هذا الموقف الخائن من النصارى اليمنيين الدافع الأول الذي جعل الملك الحميري ذي نواس يستدعيهم ويوضح لهم خطر تعاونهم مع اطراف خارجية ولكنهم لم يستجيبوا له ولهذا اعتبر أن تصرفه معهم آنذاك يدل دلالة أصلية على حسه الوطني عندما أقدم على معاقبتهم بشدة عندما شعر بخطرهم ونزوعهم إلى الاستقلال عن الدولة اليمنية بتحريض من الأحباش والبيزنطيين . لذلك فإن غزو ذو نواس لأهل نجران كانت ذات دافع سياسيا وليس تعصب منه لليهودية . كذلك تشير بعض المصادر والروايات التاريخية أن ذو نواس الملك الحميري لم يقم بمحرقة نجران بل قام بها ملك أخر . وإن هذه المجزرة الواقعة في نجران بين اليهودية والنصرانية لم يورد ذكرها في تواريخ اليونان .كذلك إن الخلاف قد دب بين اليهودية والمسيحية وتراشقوا بمفتريات فيما بينهم بدليل قوله تعالى : (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ) . كذلك كان للملك الحميري ذو نواس قرابه وصهور في مدينة نجران ومن المحال أن يقدم على ارتكاب هذه الجريمة دون اكتثار واعتبار لتلك القرابة وبنفس الوقت كان بحاجه ماسة لمسانتدهم له في مواجهه الغزاة الاحباش . جرائم ممنهجة تشير المصادر التاريخية والشواهد المادية أن الغزو الحبشي قد ارتكب جرائم ترتقي بمنظور التاريخ المعاصر والقانون الدولي إلى جرائم حرب وابادة جماعية وانتهاك لحقوق الإنسان اليمني وتدمير للبنية التحتية وتلويث للبيئة و محاولة طمس هوية و تاريخ وتراث وحضارة اليمن خلافا إلى نهب خيرات اليمن من الثروات والتدمير الممنهج للاقتصاد . فالمصادر التاريخية وكذلك الأجنبية التي دونت تلك الأحداث تشير إلى الأهوال التي انزلها الأحباش في اليمن خلال نصف قرن من احتلالهم فالتدمير الوحشي المروع الذي تقشعر له الأبدان وتشيب منه الرؤوس والذي حل على يد الأحباش في مدن اليمن وقراها وبكل مرافقها وآثارها ومنشآتها وتدمير للقصور والقلاع وحتى الينابيع وآبار المياه تم طمرها أو تغويرها . فضلا عن حمل الأفات الزراعية من النباتات الضارة والحيوانات المهلكة للزرع والتي حملها الأحباش إلى اليمن . و عمل المحتل إلى فرض معتقده الديني والفكري والثقافي واصدار القوانين الملزمة ومعاقبة من يخالفها وطمس الهوية اليمنية وسلخ المجتمع اليمني عن تاريخه واصله . كذلك كان الثمار السيئة والأعمال المدمرة التي جناها أبناء اليمن المكتوين بنيران الاحتلال الأجنبي الدمار الاقتصادي عبر نهب وسرقة خيرات اليمن وبعثره قواه المنتجة وتعطيل للمشاريع الانتاجية والخدمية وانتقال الطرق التجارية إلى شمال الجزيرة العربية وخارجها كل ذلك سارع في افتقار البلاد وهجره المدن وصحرت الأراضي الزراعية لتسخير اليمنيين لخدمته. واخضاع اليمن لنظام الاتاوات وحملت القوات الحبشية معها مغانم وكتوز واموال هائلة من اليمن بالإضافة إلى أعداد كثيرة من الأسرى اليمنيين من بينهم خمسون فردا من الأسرة الحميرية الحاكمة آنذاك . مكاسب الخونة فالأحباش بشكل عام لم يهبوا دفاعا عن النصرانية في اليمن القديم بدليل أن الحبشة احتلت اليمن بالقرن الثالث الميلادي ومن بعده حاولت احتلال اليمن مرارا وتكرارا وذلك لموقعها ومركزها التجاري الهام ومن خطر اهداف تلك الغزو هو محاولة أبرهة الحبشي في عام 571م بمحاولاته لغزو الطائفومكة وضم الحجاز مع اليمن وتحويل الجزيرة العربية كخط تجاري تابع لدولة البيزنطية - وان كان هدف حملة ابرهة الحقيقي على مكة لم توردها كتب التاريخ او تجاهلت ذلك فهناك حقائق مهمة لم يماط عنها اللثام - فالدافع الديني الذي دفع البيزنطيين والأحباش في غزوهم الثالث لليمن سنة 525م قد اختفي بعد احتلالهم ولهذا كان غزو الأحباش لليمن بدوافع سياسية - اقتصادية قبل أن تكون بدافع دينيا . بل لقد تنكر الأحباش الغزاة للمسيحيين اليمنيين والأعيان الحميريين المناهضين والمعارضين لحكم ذو نواس و الذين ساعدوا الأحباش في احتلال وتثبيت اقدامهم على أرض اليمن مما أدى بهؤلاء المنتصرون اليمنيون وغيرهم من الأقيال المتعاونين مع المحتلين - الخونة والعملاء - إلى الانخراط في صفوف المقاومة الوطنية من أجل الاستقلال بعد أن كانوا يعتقدوا إنهم بتحالفهم مع الأحباش ومساندتهم سوف تتحقق مصالحهم السياسية والاجتماعية التي يتطلعون اليها . لذلك فإن المقاومة اليمنية لم تستسلم بل راحت تواصل نضالها ثم اتسعت لتشمل أطراف أخرى كانت محسوبة على الأحباش وبذلك أظهر اليمنيون مقاومة عنيفة اضطرت المحتل إلى تعيين (السميفع أشوع) حاكما على اليمن ونائبا لملك الحبشة فيها بهدف احتواء المقاومة اليمنية وتسخيرها لمصلحتهم وتنفيذ اجندتهم الاستعمارية. لكن كل ذلك لم يثنى الشعب اليمني عن مواصلة نضاله واعادة تحرير وطنه وتوحيد اليمن ارضا وإنسانا بعد نصف قرنا من الاحتلال