أعرب المجرم نتنياهو، من أعلى قمة جبل الشيخ في سوريا، قائلاً: "نحن هنا لنقرر حول استعدادات إسرائيل في هذا المكان المهم، والذي سنبقى فيه حتى يتم ترتيب آخر." هذا التصريح يثير تساؤلاً عميقًا حول طبيعة هذا "الترتيب الآخر" من وجهة النظر الصهيونية. ألا تعكس القوة التي يتحدث عنها نتنياهو هذا "الترتيب الآخر"؟ بمعنى أنها تمثل ردة الفعل المناسبة للأعمال العدوانية التي ترتكبها إسرائيل ضد شعوب المنطقة. يحيى الربيعي في هذا الإطار، يكشف الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي في "دروس من هدي القرآن الكريم - ملزمة لتحذون حذو بني إسرائيل" عن المنهج الحقيقي لهذا المجرم ومن يدعمه من أقطاب الإمبريالية. حيث يُظهر الشهيد القائد طبيعة المنهج الإمبريالي، الذي لا يتردد في ارتكاب أفعال همجية لتحقيق مصالحه، بغض النظر عن العواقب. ويؤكد الشهيد القائد على الوجه الحقيقي للتخاذل العربي، من خلال عبارته الشهيرة: "بيع الدين - سواءً من قِبَل من يحملون اسمه، أو من يتحركون باسمه، أو من بقية الناس - مقابل مصالح مادية لا يبررها إطلاقًا. لا يمكن أن نعتبر ذلك مبررًا، سواء قيل إنه حفاظ على المصلحة العامة أو حتى حفاظًا على المذهب. كيف يمكن أن نسكت عن هذه الأمور مقابل أن يحتفظوا لنا بشيء؟ هذا ليس مبررًا. الدين للأمة، لذا يجب فهم احتياجاتها وتحليل وضعها، والانطلاق نحو إحياء القيم الدينية، والحفاظ على الدين يعني أيضًا الحفاظ على المصلحة العامة." كما يتناول الشهيد القائد مفهوم الاعتدال في الفكر الصهيوني، مؤكدًا أن ما يُعتبر اعتدالًا من وجهة نظرهم هو في الواقع تطرف يتجاوز جميع حدود العدالة. إن تمسك الكيان الصهيوني بأوهامه، ورفضه تقديم أي تنازلات دون مراعاة الظروف المحيطة، يمثل تطرفًا أهوجًا. الشذوذ البنيوي للكيان الصهيوني يغيب عن وعي غالبية العرب أن مفهوم التطرف والاعتدال في المنظور الصهيوني يعتمد على معيار واحد، وهو أن كل ما يتعارض مع سياسات التوسع الاستيطاني يُعتبر تطرفاً، مهما كان حجمه أو مصدره، في حين أن المواقف التي تدعم هذه السياسات تُعتبر اعتدالًا، ومع ذلك، فإن العديد ممن يسعون إلى اعتدال صهيوني بمعناه التقليدي يغفلون بأن أسباب الصراع السياسي والاقتصادي مرتبطة بقضايا نصية وتاريخية عميقة تعود إلى أصول الصراعات التاريخية، حيث تتأصل في العلاقات والتفاعلات القائمة عبر الأجيال، مستندة إلى الأحداث التي ذكرت في القرآن، والتي تشير إلى عصيان بني إسرائيل لله واعتدائهم على خلقه. لا يختلف الأمر كثيراً في الصراع العربي-الصهيوني، فسبب الصراع يعود إلى الشذوذ البنيوي للكيان الصهيوني الاستيطاني، الذي تأسس على الظلم وتم توطينه بالإرهاب والقمع. طالما ظلت البنية الصهيونية شاذة، فإن الصراع العربي الصهيوني سيظل مستمراً، ومع ذلك، نجد أن الجانب العربي يستخدم المصطلحين "التطرف" و"الاعتدال" بشكل مائع وغير محدد، مما لا يخدم إلا المرجعية الصهيونية ويعزز من موقفها في الأزمة. فقد تُستبدل حقائق الصراع بشعارات مثل "أرض بلا شعب" و"شعب بلا أرض"، والتي تعبر عن محاولة لتجريد الشعب الفلسطيني من هويته وحقه في أرضه. هذه الأفكار تسعى لتجميع اليهود المهاجرين فيما يُسمى "أرض إسرائيل"، بينما يتم نفي السكان الأصليين أصحاب الأرض، مما يمثل إخفاءً متعمدًا لواقع التهجير والتصفية. رفض الإذعان إرهاب في هذا السياق، فإن وجود الفلسطينيين في وطنهم فلسطين يُعتبر حسب التصور الصهيوني أمراً عرضيًا زائلًا. لذا، تطالب الدولة الصهيونية بالتخلص منهم بطريقة أو بأخرى لتأسيس الدولة اليهودية المقصورة على اليهود. بناءً على ذلك، يُعتبر من حق ما يسمى ب"الدولة الصهيونية" الدفاع عن نفسها بحقوقها المطلقة بكل ضراوة بواسطة ما يسمى ب"جيش الدفاع الإسرائيلي" ضد ما تعتبره "إرهاب" السكان الأصليين؛ أي: الفلسطينيين، الذين يرفضون الإذعان للرؤية الصهيونية. تتناقض مفاهيم السلام بين الأحزاب الصهيونية المختلفة، لكنها تتفق على مفهوم الأمن الذي يعكس نفس المعاني الأساسية. في نظر الصهاينة، لم تعد تُعتبر القضية الفلسطينية حتى "قضية أخلاقية" كان يجري، وإلى ما قبل العدوان الأخير على غزة، الحديث عن تعويضات مالية للفلسطينيين بدلاً من إعادة توطينهم في ديارهم. إذ يرى الصهاينة أنه يمكن استيعاب المتبقين من الفلسطينيين في أماكنهم الموجودة حاليًا، مثل سورياولبنان. ومع ذلك، أدرك الصهاينة صعوبة التخلص من الفلسطينيين وما اسموه بوجودهم "العرضي الزائل"، مما دفعهم لتقبل الأمر الواقع مع اتجاههم نحو زيادة العنف ضد الفلسطينيين. لكن محاولة محاصرة هذا الوجود هي في حد ذاتها دليل على الفشل الصهيوني في تحقيق أوهامهم فيما يطلق عليه دولتهم الخاصة، ويتضح ذلك من خلال استمرار الانتفاضات والمقاومة الفلسطينية، مما يحول النظام الاستيطاني الصهيوني إلى نظام قائم على التفرقة العنصرية أو التفرقة العنصرية. "سياسة الأمر الواقع تُعتبر السياسة الوحيدة القابلة للتطبيق مع العرب"، الأمر الواقع الذي يراه الصهاينة سبيلا أوحد لتغيير الواقع العربي وفرض واقعًا صهيونيًا بديلاً عليه. ولكن عندما انصدمت هذه الرؤية بما أثبتته الانتفاضة و"الحزام الأمني" في لبنان من عدم جدوى هذا الأمر الواقع، عجزت الصهيونية عن فرض السلام بشروطها العنصرية، بل إن الإجماع الصهيوني بدأ يتزعزع تجاه ما يسمى بالغزوات العسكرية الإسرائيلية "الدفاعية"، ويظل الإجماع الصهيوني مهزوزًا كلما قام العرب بواجب الدفاع عن حقوقهم بالمقاومة المسلحة. رغم المقولات الصهيونية عن الاستقلال والاعتماد على الذات، تبقى الحقيقة أن الدعم الغربي، وخاصة الأمريكي، يعتبر أمرًا حيويًا لبقاء المستوطنين في الأراضي المحتلة. فما يسمى ب "الدولة الصهيونية" ليست أكثر من كيان وظيفي قائم لخدمة المصالح الغربية بالمنطقة، وقد اعتمد الغرب المشروع الصهيوني وضمان استمراره لحماية هذه المصالح، فبدون أداء الكيان الصهيوني لدوره الوظيفي، سيصبح مستقبله محفوفًا بالمخاطر. العنصر الوحيد الذي لم يهتز هو إدراك الصهاينة لأهمية الدعم الأمريكي؛ فهو يُعتبر أساسيًا لبقاء واستمرار الدولة الصهيونية. وبذلك، يمكن اعتبار هذا العنصر "الثابت " وسط كل التشققات والتغيرات التي لحقت بالعناصر الأخرى من الإجماع الصهيوني، مما يدل على أن معظم الثوابت أصبحت متغيرات خاضعة للتفاوض. من الشتات إلى التهجير مفهوم "الدياسبورا؛ الشتات" قد تم تشويهه وإخفاؤه عن طريق الخطاب الصهيوني المراوغ، ما أدّى إلى أن يُعتبر ما يصفه العرب بالتطرف هو في الواقع الاعتدال من وجهة النظر الصهيونية السالبة لحقوق الآخرين. بعد إعلان وعد بلفور عام 1917، كان الصهاينة الذين يطالبون بإنشاء كيان صهيوني يُعتبرون "متطرفين"؛ حيث كان المطلب الأقصى في ذلك الوقت هو "كيان قومي فقط". ومع مرور الزمن، تحول هؤلاء المتطرفون إلى معتدلين في الأربعينيات عندما أصبح الهدف إعلان ما يسمى ب"دولة صهيونية"، وشهدنا تصاعد الحديث عن "أرض إسرائيل كاملة" وطرد العرب، مما أصبح يُعتبر اعتدالًا صهيونيًا. بعد أن احتلت إسرائيل أراضٍ تتجاوز حدود 1948، أصبح الاعتدال لدى الصهاينة هو عدم التمسك بحدود 1948 نفسها، بل القبول بالأمر الواقع الذي يفرض توسعًا مستمرًا وطردًا للفلسطينيين من ديارهم. عقب حرب 1967، كان تطرف الصهاينة يتمثل في التمسك بكل أو بعض الأراضي المحتلة، بينما بدأ يتغير هذا الموقف تدريجياً ليصبح الاعتدال هو قبول توسيع المستوطنات إلى ما لا حدود له من أراضي الشرق الأوسط للتوسع في بناء المزيد من المستوطنات الصهيونية. وينطبق هذا المبدأ ذاته على العرب، فالمعتدل من وجهة النظر الصهيونية هو الذي يقبل الموقف الصهيوني المتغير. فالعربي الذي كان يقبل استيطان الصهاينة دون إنشاء دولة في الفترة من عام 1917 حتى الأربعينيات كان يُعتبر معتدلاً، ولكن بعد ذلك التاريخ، أصبح هذا الموقف متطرفًا. أيضاً، من كان يقبل إنشاء الدولة اليهودية وقرار التقسيم عام 1948 كان يُعتبر معتدلاً، ولكن بعد قيام الدولة أصبح هذا الموقف متطرفاً. حتى عام 1967، كان الاعتدال العربي يعني منح الكيان الإسرائيلي صلاحية عدم الاكتراث بتطبيق قرار 242. الدولة الوظيفية الجدير بالملاحظة أن مفهوم ما يسمى ب "أمن إسرائيل" يُستخدم دائماً كحجة لتحديد قيمة مفهومي الاعتدال والتطرف، وهذا الأمن تحدده منهجية الكيان الصهيونية في حق استلاب الأراضي الشرقية. وعلى العكس، لم يبرز على الساحة الدولية، وفي أروقة الأممالمتحدة، وفي العديد من الحالات غياب مفهوم العدالة في شكل تكريم المقاومة فحسب، بل أصبحت أي فعالية مقاومة تُعتبر شكلاً من أشكال التطرف والإرهاب. وعودة إلى ما تشير إليه المرجعية النهائية لقيام الكيان الصهيوني إلى كونه "دولة وظيفية" تتبناها القوى الامبريالية الغربية، التي تضمن لها البقاء على حساب العرب، فإن هذا الكيان يقوم في أساسه على خدمة مصالح الاطماع الاستعمارية الغربية في الشرق ، ويدعمه العالم الغربي من كافة جوانبه. في المقابل، فإن هذه الصيغة الاستعمارية تتجاهل تمامًا فكرة العدالة بالنسبة للعرب، وتعتمد على القوة التي تدعمها الامبريالية الغربية، مما يؤدي إلى إرساء قيم الضعف والوهن في الجسم العربي. هذه الأسس تحدد حجم الاستيطان وكثافته، وهي خاضعة للاعتبارات الاستراتيجية التي تنظمها الامبريالية لمصالحها في المنطقة. ولكن، ورغم وجود هذه المرجعية الثابتة للعقل الصهيوني، فإن موقف الصهاينة يتباين في الممارسة اليومية بين الاعتدال والتطرف، وليس موقفًا واحدًا ثابتًا. لتفسير هذه الظاهرة، يجب أن نشير إلى وجود انفصام بين إدراك الكيان الصهيوني لواقعه وبين استجابته لهذا الواقع وسلوكه فيه. فاستجابة الكيان ليس فقط تحددها المكونات المادية للواقع، مثل موازين القوى، بل أيضا يتأثر بعوامل نفسية وعصبية وتاريخية وثقافية وإدراك الآخر، مع الإشارة إلى أن هذا الآخر يُعتبر كائنا غير سامي لا يستحق سوى القهر والهيمنة. قد يكون من المفيد رسم مخطط لطيف الإدراك الصهيوني (الذاتي) في علاقته بموازين القوى الإمبريالية الداعمة. حيث لا يُمنح الصهاينة حق الوجود المتغطرس إلا في إطار دولة "وظيفية" تخدم المصالح الإمبريالية، وترى نفسها ملتزمة بالاعتدال لصالح توسيع الوصاية على مقدرات المنطقة. يدرك الصهاينة العرب من خلال أربعة أنماط أساسية: العربي الحقيقي، العربي ممثل الأغيار، العربي الهامشي، والعربي الغائب. الأسلوب العقائدي العدواني رغم أن" الدولة الصهيونية "بدأت تدرك أن اليهود ليسوا شعبًا واحدًا كما كان يدعي الصهاينة قبل عام 1948، لا يزال سؤال "من هو اليهودي؟" يمثل إشكالية قائمة تطرح نفسها على الوجود الصهيوني في الأراضي العربية المحتلة وعلى المستوطنين الصهاينة. كما فهم الصهاينة أن فلسطين، بفضل مقاومة أهلها، لم تعد لقمة سهلة أو مجالًا مفتوحًا للتوسع، ومع ذلك، لم تتوقف الأطماع الصهيونية عن دعوة يهود العالم العربي للهجرة إلى الشرق الأوسط المزمع استكمال احتلاله، بل زادت من مستوى أساليبها العدوانية العقائدية التي اتبعتها في السابق. من هذا المنطلق، أصبح الحديث عن شعارات قديمة مثل "جمع المنفيين" و"غزو الجاليات" و"تصفية الدياسبورا" و"إسرائيل الكبرى" متزايدًا، بالتزامن مع المفاهيم الجديدة مثل "الصهيونية التكنولوجية" والتقليص الملحوظ لحديث "صهيونية الدياسبورا". يعكس هذا تحولًا كبيرًا في أجندة الحركة الصهيونية التي أصبحت تفرض واقعًا يتمثل في اعتبار اليهود شعبًا واحدًا، وأن ما تحلم به من كيان "إسرائيل الكبرى" هو الوطن الوحيد لهم، ولليهود المنفيين حق الهجرة إليها. هذا يُظهر تحولًا إلى الصهيونية التوطينية وتنازلًا عن حقيقية صهيونية الشتات. في عالم السياسة، يمثل الإجماع التوافق بين النخبة والجماهير حول عدد من المسلمات الفلسفية والأخلاقية. ويتمثل الإجماع الصهيوني في توافق بين كافة التيارات والأحزاب الصهيونية حول قضايا الأمن والعلاقة مع الفلسطينيين ومع يهود العالم. ورغم وجود اختلافات في الوسائل، تظل هذه الخلافات غير مؤثرة على الأسس الجوهرية التي يقوم عليها التجمع الصهيوني. على الرغم من أن بعض هذه المسلمات قد اهتزت بفعل الواقع المقاوم، المتمثل في انتفاضات الفلسطينيين، إلا أن الغالبية الساحقة من المستوطنين لا تزال تدور في فلك هذا الإجماع. ويمكن تلخيص هذا الإجماع في نقاط رئيسية: اليهود هم شعب واحد، وفلسطين هي "أرض الميعاد"، ويجب على يهود العالم الهجرة إلى "إرتس يسرائيل" ودعم ما يُسمى بدولة اليهود ماليًا وسياسيًا. هذه الدولة يجب أن تكون يهودية خالصة، مما يعكس الدوافع التاريخية والثقافية للصهيونية، ويجعل من اليهودية الهوية الأساسية التي تتجاوز تباين الأعراق والثقافات. العدو ومعادلات الاستباحة ردًا على هذا المنطق، يُبرز خطاب قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي الذي يؤكد أن العدو الحقيقي للجميع هو العدو الإسرائيلي، اليهودي، الصهيوني، الذي يسعى لفرض معادلات للاستباحة. هذه الاستباحة تشمل كل شيء، ويحاول هذا العدو استنزاف قدرات الأمة وتفتيتها ليفرض "معادلة تقضي بأن تظل قدراتكم العسكرية محصورة في حدود المهام التي تخدمه، سواء بالاقتتال فيما بينهم أو بسحق بعضكم بعضًا، مما يؤدي إلى استنزاف مقدراتكم ويدفعكم نحو الانهيار التام وفقدان كل عناصر القوة المعنوية والمادية". مؤكدا أن هذا العدو يسعى إلى جعل الأمة مفرقة وضعيفة، لإبعادها عن جوهر هويتها الدينية والثقافية، التي تربيهم على الاعتصام بالوحدة وإعداد القوة لمواجهة التحديات. من هنا، يمكننا أن نستشف كيف تؤثر القوة في تشكيل الإدراك، سواء بتعزيزه أو تقويضه. كلما اتجهت موازين القوى لصالح العرب، يتجلى إدراك واقعي لدى الصهاينة بأن بنيتهم الاستيطانية لن تؤمن لهم السلام والرفاهية. هذه الديناميكية تؤدي إلى ظهور الصورة الحقيقية للعربي المتمسك بحقه في الوجود والسيطرة، مما يعيد صياغة الإدراك ويبدد الأوهام الأيديولوجية الصهيونية. ومع ذلك، هذا التحول يحدث أحيانًا في ظروف معينة، ويترافق مع تصاعد في إرهاب وتعنيف العقل الصهيوني ضد أي بادرة تعكس هذا الاتجاه. في المقابل، فإن رؤية العربي ككيان هامشي أو غائب يعزز موازين القوى لصالح الصهاينة، مما يدفعهم إلى إدراك متحيز يجعلهم يعتقدون أن الاستيطان قد حقق لهم الأمن وسبل العيش الكريم. هذا الوضع يؤدي إلى تهميش التاريخ العربي، مما يبرز أهمية فهم الديناميات القوية التي تؤثر على طبيعة المواجهة المصيرية بين العرب والصهاينة، وكيف تشكل هذه الديناميات مستقبل المنطقة. الوجود المتخلف وكسر الغطرسة يمكننا تفسير التطرف والاعتدال الصهيونيين في ضوء الاحتمالين المطروحين. إذا ظل العربي ساكنًا دون أن يتحدى الرؤية أو موازين القوى، يصبح من الممكن قبوله كشخصية متخلفة أو هامشية، مما يسمح بإبداء بعض التسامح تجاهه ومنحه بعض الحقوق، مثل الحكم الذاتي. هنا تكمن المفارقة: قبول الفلسطينيين كمواطنين ثانويين ضمن الأطر الجغرافية للدول العربية المحيطة بالكيان الصهيوني. على الرغم من تسميتها "دولًا عربية"، فهي ليست سوى إقطاعيات تدار بنظام الحكم الذاتي تحت المظلة الصهيونية والوصاية الغربية، مما يُظهر فكرة التسامح بشكل زائف. لكن، إذا بدأ العربي في النضال لتأكيد حقوقه ورفض الهامشية المفروضة عليه، واستطاع تغيير موازين القوة لصالحه، فإن ذلك يصبح تهديدًا حقيقيًا للكيان الصهيوني. في هذه الحالة، يدخل الصهيوني في حالة من التأهب والقلق، مما يجعل أي موقف تسامحي في قاموس تعاملاته مرفوضًا تمامًا. نعيش اليوم في عالم يتعامل مع الواقع من خلال حواسنا الخمس، حيث يُعتبر كل ما لا يمكن قياسه افتراضات خيالية. لذا، لتوصيل قيم الحق والعدل إلى العدو، يجب الضغط على حواسه حتى يدرك أن العربي الحقيقي ليس مجرد صورة باهتة يمكن تجاهلها، بل هو قوة حقيقية قد تتسبب له في خسارة كبيرة إذا استمر في تجاهلها. هذا هو القصور الأساسي الذي أحبط كل محاولات فرض وجود عربي يتحدى الغطرسة الصهيو-امبريالية. ولعل ما يزيد الأمور تعقيدًا هو اعتقاد بعض الأنظمة العربية، خاصة المتعاونين مع الاتفاقيات الإبراهيمية، أنهم يمهدون الطريق لرفع رايات السلام والاعتدال، دون إدراك أنهم بذلك يقدمون صورة مشوهة للعربي في وعي العالم. هذه الأنظمة تظن أن الاعتدال سيقنع الكيان الإسرائيلي برغبتهم في السلام، وهو ما قد يؤدي إلى اتفاق عادل أو شبه عادل. لكن، ما يحدث على الأرض هو العكس تمامًا. فكلما زادت مساعي الاعتدال العربي، زاد التطرف الصهيوني. إن تمسك الكيان بكل شبر من الأرض العربية المحتلة لم يعد محصورًا في حدود فلسطينالمحتلة، بل أصبح يتجاوز ذلك إلى استلاب أجزاء من المناطق المحيطة. وفقًا للرؤية الصهيونية، يُعتبر التطرف العربي هو المقاومة لهذا الاستلاب، مما يظل مصدر قلق دائم للكيان الصهيوني وللقوى الإمبريالية، التي غالبًا ما تتبنى لغة العنف وتستغل المفاوضات كأداة للتلاعب والتمويه. في ختام التحليل، يتضح أن الصهيونية تحاول التمويه عن فشلها في تصفية القضية الفلسطينية بخلق تحديات معقدة تعكس واقعًا متغيرًا يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة. وبينما يتسم الإجماع الصهيوني بقدر من التباين، تستمر المقاومة الفلسطينية في تقديم إشارة قوية على أن الحلول السطحية أو الأحادية لن تؤدي إلى سلام دائم، بل ستعمق الجراح وتزيد من معاناة الشعوب. إذا كانت هناك رغبة حقيقية في تحقيق سلام عادل، فلا بد من الاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وأن أي تسوية يجب أن تأخذ في اعتبارها الحقوق التاريخية والسياسية.