لم تكن السماء لتخلو من نجمٍ حين غاب اللواء الركن محمد عبد الكريم الغماري، فقد كان واحدا من أولئك الرجال الذين لا يغيبون، بل يتحولون إلى مناراتٍ تهدي الطريق لكل من تبقّى. استُشهد القائد، لكن في كل جبهة وقرية وحيٍّ وقلعة، نهض رجالٌ يحملون روحه يمضون على ذات الطريق، يرددون ذات القسم: أن لا تضعف اليمن، وأن لا تنكسر رايتها مهما اشتد الحصار وتمادى العدوان. لقد كان استشهاده حلقةً في سلسلة من التضحيات التي نسجت على مدى عقدٍ من الزمن ملحمة الصمود اليمني. وكلما ظن العدو أنه باغتيال قائد قد يربك الصف أو يضعف العزم، فوجئ بأن اليمن يولد من تحت الرماد، وأن الأسد حين يرحل يخلف وراءه أسودًا أشد بأساً وأصدق يقيناً واليوم حين يتولى المجاهد يوسف المداني مهامه خلفاً له فإنما هو استمرار لمسيرة لا تنكسر ولنهج لا يعرف التراجع. وفي الوقت ذاته حين امتدت يد العدوان لتستهدف مبنى صحيفة 26سبتمبر– منبر الكلمة الحرة – ظن أن القصف سيطفئ صوت الوطن أو يبعثر الحروف. لكنه لم يدرك أن القلم اليمني يشبه بندقية المقاتل لا يصمت حتى النفس الأخير. سقط شهداء الكلمة كما سقط من قبلهم شهداء الجبهات وامتزج الحبر بالدم ليكتبوا معا فصولاً جديدة من تاريخ لا يقهر. ومن بين الركام ارتفع علم اليمن شامخا على أنقاض المبنى المستهدف يرفرف بكل كبرياء كأنه يعلن للعالم أن الحجارة قد تهوي لكن الأوطان لا تسقط. ذلك العلم المغروس وسط الغبار والدمار لم يكن مجرد قماش ملون، بل كان رمزاً للثبات والإيمان بالحق رسالة صريحة مفادها أن اليمنيين لا يرفعون الرايات إلا ليتقدموا بها ولا ينكسونها إلا فوق نعوش الشهداء. إن ما يميز اليمنيين في معركتهم الممتدة هو هذا التكامل العجيب بين البندقية والكلمة بين المقاتل في الجبهة والصحفي في الميدان كلاهما يحمل هم الوطن ووجعه كلاهما يعرف أن المعركة ليست رصاصة فقط بل وعياً وموقفًا وصموداًفي وجه التضليل. ومن هنا كان العدو يخاف القلم كما يخاف البندقية لأنهما معاً يصنعان وعي الأمة ويؤسسان لانتصارها الحقيقي. لقد أثبت اليمن مرةً بعد أخرى أن الشهادة ليست نهاية بل بداية لحياةٍ أسمى وأن كل شهيد يفتح للأمة طريقاً نحو النور. فمهما كبر الجرح ومهما طال النزيف فإن اليمن ينهض من جديد مزهواً بأبطاله الذين يروون الأرض بدمائهم الطاهرة مؤمنين أن طريق القدس يمر من صنعاء وأن معركة التحرر واحدة مهما تباعدت الجبهات. إنهم يمضون مطمئنين واثقين بأن خلفهم رجالاً يحملون الراية من بعدهم وأن في كل بيت يمني قلبا يخفق بالعزة وطفلا يحلم بالنصر هذا هو اليمن يصنع من الفقد انتصاراً، ومن الحزن شموخاً ومن دماء قادته قصص خلود لا تنتهي .