العودة إلى إحياء عقيدة مونرو ستعرض الولاياتالمتحدة لعزلة دولية في 4 يوليو 1776م, عيد الاستقلال عهد الكونجرس لفرنكلين وجفرسون أن يضعا تصميما لخاتم الولاياتالمتحدة, أما فرنكلين فاختار رسماً لموسى رافعا يده, والبحر الأحمر منفلق, وفرعون في عربته تبتلعه المياه مع شعار رائج في تلك الفترة: "التمرد على الطغاة طاعة لله". علي الشراعي أما جفرسون فاقترح رسماً لبني إسرائيل في التيه يرشدهم السحاب في النهار وعمود النار في الليل، وكان الرئيس توماس جفرسون "1801-1809م" من أبلغ من تحدث عن ما يسمى المعنى الإسرائيلي لأمريكا, بل إنه ختم خطابه التدشيني لفترة الرئاسة الثانية بتعبير يشبه الصورة التي اقترحها لخاتم الجمهورية: "إنني بحاجة إلى فضل ذلك الذي هدى آباءنا في البحر- المحيط الأطلنطي- كما هدى بني إسرائيل وأخذ بيدهم من أرضهم الأم ليزرعهم في بلد يفيض بكل لوازم الحياة ورفاه العيش". الثوابت الخمسة تعتبر قصة هؤلاء "الحجاج" الإنكليز, الذين أسسوا أول مستعمرة مطلع القرن السادس عشر الميلادي فيما صار يعرف اليوم في الولاياتالمتحدة بإنكلترا الجديدة, الأصل الأسطوري لكل التاريخ الأمريكي ومركزيته "الأنكلوسكسونية" وما يزال كل بيت أمريكي يحتفل سنويا في "عيد الشكر" بتلك النهاية السعيدة التي ختمت قصة نجاتهم من "ظلم فرعون البريطاني" ملك بريطانيا آنذاك، وخروجهم من أرضه و"تيههم" في البحر- بحر الظلمات المحيط الاطلنطي- و"عهدهم " الذي أبرموه على ظهر سفينتهم (مه يهوه), ووصولهم في النهاية إلى "أرض كنعان" كل تصورات العبرانيين القدامى ومفاهيمهم عن السماء والأرض والحياة والتاريخ زرعها هؤلاء المستعمرون الإنكليز في أمريكا التي أطلقوا عليها اسم "أرض الميعاد وصهيون وإسرائيل الله الجديدة" وغير ذلك من التسميات التي أطلقها العبرانيون القدامى على أرض فلسطين، وقد استمدوا العنصرية وإبادة الهنود الحمر وغير الهنود ايضا من هذا التقمص التاريخي لاجتياح العبرانيين أرض كنعان، كانوا يقتلون الهنود وهم على قناعة بأنهم عبرانيون فضلهم الله على العالمين وأعطاهم تفويضا بقتل الكنعانيين, بل كانوا يسمون أنفسهم "بالمستعبرين" وكانت تلك الإبادة الأكبر والأطول في التاريخ الإنساني هي الخطوة الأولى على الطريق إلى هيروشيما وناجازاكي وفيتنام والعراق وافغانستان وقبلهما وإلى اليوم فلسطين، إنهم كما يقول الحاخام المؤرخ "لي ليفنغر": "أكثر يهودية من اليهود" لأنهم يعتبرون أنفسهم "يهود الروح" الذين عهد الله إليهم ما عهد إلى "يهود اللحم والدم" قبل أن يفسدوا ويتخلوا عن أحلام مملكتهم الموعودة، وإن يهودية هؤلاء الحجاج المهاجرون إلى أمريكا هي أرست الثوابت الخمسة التي رافقت التاريخ الأمريكي في كل محطاته، فهذه الثوابت هي تشكل المعني "الإسرائيلي لأمريكا" عقيدة الاختيار الإلهي والتفوق العرقي والثقافي, الدور الخلاصي للعالم, قدرية التوسع اللانهائي, وحق التضحية بالآخر". القدر المتجلي لم يكن الآباء المؤسسون للدولة الأمريكية مثل "جفرسون وآدامس وفرنكلين وباين" بأقل حماسة للمعنى الإسرائيلي للأمة الأمريكية من الحجاج والقديسين، ومعروف أن فرنكلين وجفرسون كليهما أصر على صورة ما يسمى "الخروج الإسرائيلي" من مصر إلى كنعان كمثل أعلى للنضال الأمريكي من أجل الحرية، وفي القرن التاسع عشر صار المعنى الإسرائيلي للأمة الأمريكية يتمحور حول التوسع باتجاه الغرب وبسط السيطرة على جيران كنعان "وراء نهر المسيسبي" وان هؤلاء الهنود الحمر قد أعطت أرضهم وأرواحهم لما يسمى "شعب الله", حيث لم يكن بخلد فرد منهم أن سيوف "شعب الله" قاب قوسين أو أدنى من رقابهم"، لم يبدأ التوسع باتجاه الغرب إلا بعد أن اشترى الرئيس جفرسون أراضي لويزيانا من نابليون, فهذا التملك ضاعف مساحة الأراضي لأمريكا في القارة الأمريكية الشمالية ووفر الشروط الآمنة للملاحة في المسيسبي، وفتح الشهية لاجتياح الغرب الأقصى للقارة الأمريكية الشمالية, وكانت هذه المناطق الجديدة وغناها بالثروات قد عززت القناعة بمواكبة العناية الإلهية لتوسع "شعب الله", وأن هذه البلاد ما خلقت إلا لكى يتملكها بنو (إسرائيل الجدد)، ومع تقدم الأمريكيين بالبندقية والبلطة والمذابح والإبادة واقتضامهم الغرب ميلا بعد ميل, تضاعف الاعتقاد بالمعنى الإسرائيلي لأمريكا وبالاختيار الإلهي، وقد عبر "ريتشارد نيبر" عن ذلك في كتابه "مملكة الله في أمريكا" بقوله: "إن الفكرة القديمة عن شعب الله الأمريكي قد أعطت دورها لفكرة الأمة الأمريكية المختارة والمفضلة عند الله". الجغرافيا الحيوية عقيدة القدر المتجلي التي سادت منذ أربعينيات القرن التاسع عشر قد أدت إلى تأكيد لما يسمى المعنى الإسرائيلي لأمريكا، فالاصطلاح كما يعرفه "ألبرت وينبرغ" في كتابه بعنوان "القدر المتجلي" يعبر عن الثقة المطلقة بالنفس وبالطموحات التي أقرها القدر نفسه بآيات واضحة جلية, بدءا بآية السفينة التي حملت الحجاج- مهاجري أوروبا رحلة القديسيين إلى امريكا بداية القرن السادس عشر الميلادي– إلى بليموث وانتهاء بالتوسع غرب المسيسبي الذي رعته العناية الإلهية، ومن أبرز مبررات هذه العقيدة ما يسمى بنظرية "الجغرافيا الحيوية" التي تزعم بأن "المكان الجغرافي للدولة المتفوقة كائن حي ينمو باستمرار ولا يموت"، ونظرية "القضاء والقدر الجغرافي", أو الزعم بأن يد القضاء هي التي ترسم الحدود الجغرافية للأمم، فالولاياتالمتحدة الأمريكية لا تعترف كالعدو الصهيوني إلى الآن بحدود جغرافية لها, وليس في دستورها إشارة إلى ذلك، ومنذ أطلاق "جون أوسوليفان" مصطلح "التملك الحق" تحول "القدر المتجلي" إلى عقيدة سياسية مفادها أن هذا العالم كله مجاهل وأن قدر أمريكا "الأنكلوسكسونية" الذي لا ينازعها فيه أحد أن تمتلك منه ما تشاء من أرض لأن ذلك حقها الطبيعي, ولأن إله الأمم هو الذي أورثها هذه الأرض. الإبادة والتطهير "تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض, إن أول ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزومين . ويا الله ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم, وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض! هذه واحدة من الإبادات الكثيرة التي واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون.. إن جلادنا المقدس واحد" مايكل هولي إيغل من نشطاء هنود شعب سو 1996م. تمكن مستعمرو أمريكا من إبادة سكان قارة كاملة عددهم 112 مليون إنسان لم يبق منهم في إحصاء أول القرن العشرين 1900م, سوى ربع مليون والذين ينتمون إلى أكثر من اربعمائة أمة وشعب جريمة لم يعرف التاريخ الإنساني مثيلا لها في حجمها وعنفها وفظاعتها لكنها جريمة لم تكتمل فصولا ولم تصل بعد إلى غايتها المرسومة بيد القدر, مارس عليهم حرب إبادة منها 93 حربا جرثومية شاملة أتت على حياه الملايين من هذه الشعوب هذه الإبادة الجماعية الأعظم والأطول في تاريخ الإنسانية, والتي حاول تاريخ المنتصر محو ذكرها من وجه الأرض, بل وتشويه التاريخ الثقافي والاجتماعي لتلك الشعوب عن طريق سيلا من الكتب والمعلومات التي أغرق بها التاريخ المنتصر القلوب والعقول وشاشات السينما والتلفزيون ووسائل الإعلام وهي بمعظمها تؤكد على فراغ الأرض ووحشية هذه الشراذم الهندية ومسؤوليتها عما جرى لها، وفي ذلك يتحدث "مارغو ثندربيرد" من الحركة الهندية 1988م بقوله: "ها هم الآن, بعد أن أفنوا شعوبنا, يريدون أن يشوهوا الروح الهندية, وأن يزيلوا أغلي ما نعتز به، يريدون محو تاريخنا, ويعبثوا بتقاليدنا الروحية، يريدون أن يعيدوا كتابة ذلك من جديد وأن يخلقوا خلقا آخر، إن أكاذيبهم لم تتوقف بعد ولصوصيتهم ليس لها حدود"، ويؤكد ميثاق الإبادة لعام 1948م,: "التسبب في إزالة ثقافة من الوجود هو عمل من أعمال الإبادة, وما جرى في أمريكا لم يكن إبادة لثقافة واحدة بل لأكثر من أربعمائة ثقافة مختلفة المستوى . إن خطر سابقة هذه الإبادة الثقافية أنها أصبحت مثالا يمكن احتذاؤه في كل المناطق الخاضعة أو المرشحة للغزو والاجتياح الحضاري. فالدولة الأمريكية- قاعدة الإمبراطورية الأمريكية– قامت على مبدأ طارئ بالكامل لم تعرفه من قبل تجارب نشأة الدول, ففي حين كان مبدأ السابقين هو استمرار الجغرافيا وتدفق التاريخ, فإن التجربة الأمريكية كان مبدؤها الأول التصميم هربا إلى جغرافيا جديدة وانقطاعا عن تاريخ سابق . وكذلك كان المبدأ الذي فرض نفسه على الجميع نسيان الماضي والتخفيف من حمولاته, وأنهم في حاجة إلى ثقافة وأخلاق وقانون من مصادر تناسب ظروفا مختلفة عن أي ظرف نشأت فيه دولة من قبل .فالتاريخ الجديد كان مطلوبا منه أن يكون صفحة بيضاء, وحينما بدأ التدوين فإن قتل الآخر كان فاتحة أول سطر, لأن القتل له وظيفة مزدوجة "ضمان الأمن وذلك جانب إنساني, وضمان المصلحة وذلك حق من وجهة نظرهم، فيما كان السطر الثاني في تجربة مجتمعات المهاجرين إلى العالم الجديد هو اختراع صيغة أخلاقية تدعى البراءة فيما سوف تفعل حتى تتخفف من عبء ما اضطرت إليه وتغطى عليه بذرائع وضرورات الاستقرار والتقدم, وهنا تكفلت طقوس من نوع "عيد الشكر" وفلسفته بغزل ونسج الغطاء الأخلاقي المطلوب, وتمكنت من صنع وتجهيز أعراف أخلاقية تحتاجها المغامرة الأمريكية والعبرة فيها: "أن الهندي الأحمر ليس مؤمنا بالله بحيث يستحق نعمة هذه القارة وخيرها, كما أن الحكمة الإلهية لم تخلق موارد الطبيعة بهذا السخاء الرباني لكي يهدرها المتخلفون, وتأسيس عليه فإن الأحق بالموارد هم الأقدر على استغلالها ومع الوصول بالمقدمات إلى نتائجها فإن اغتصاب الأرض يصبح واجبا على المؤمنين " ثم جاء دور التشريع, كان المدخل المفتوح أمامه قانون المصلحة, يقضى بأن "ما هو نافع لأصحابه قانون بالضرورة "، وكذلك أصبحت القوة هي كاتب النصوص, وبالتالي فإن الأمر الواقع الذي تفرضه هذه القوة هو الحقيقة والحق في آن واحد, حتى وإن كان عُمر هذا الأمر الواقع سنة أو شهرا أو أقل!. لذلك هذه كانت هي البذور والجذور في نشأة وتطور الدولة الأمريكية وكذلك الإمبراطورية التي قامت عليها منذ إعلان استقلالها عام 1776م، لذلك فإنه يمكن فهم المنطق الذي تعتمده السياسة الأمريكية حتي هذه اللحظة بالذات في الشرق الأوسط, وعلى هذا المنطقة فإنه لم يجلس مفاوض عربي أو محاور عربي إزاء نظير له أمريكي وحاول أن يقدم ويشرح له قضية فلسطين والحق التاريخي واعادة اللاجئين الفلسطينيين إلا وسمع منه طلب أن يعفيه من الخلفيات التاريخية فيه تفاصيل لم تعد تهم لأن الحاضر الراهن هو النقطة التي نعيشها ونتصرف منها بصرف النظر عما سبقها وجرى في زمن قبلها.. شركة عابرة للقارات الدولة الامريكية وبواقع النشأة والظهور لم تقم على قاعدة شعب بعينه, أو أمة بذاتها أو عقيدة حلت في قارة من الأرض وربطت ناسها, بل كانت النشأة والظهور في إطار مغامرة تاريخية نادرة, وكذلك فإن الإمبراطورية التي قامت عليها هذه الدولة اختلفت عن الإمبراطورية البريطانية أو الإمبراطورية النمساوية كلتاهما قامت على شعب بعينه, كذلك فإنها اختلفت عن الإمبراطورية النمساوية أو الإمبراطورية الروسية كلتاهما قامت على أمة بذاتها, وأيضا فإنها ليست مثل الإمبراطورية الإسلامية أو الإمبراطورية البيزنطية كلتاهما قامت على عقيدة حلت وتسيدت، وترتب على ذلك أن الإمبراطورية الأمريكية لم تستطع في أي وقت أن تستوعب فكرة الوطنية الموحدة بوطن واحد أو فكرة القومية الجامعة أو فكرة الرابط الديني الواسع, بالتالي فإنها عند تعاملها مع أطراف تستند على مثل هذه الأسس وقفت أمام حاجز ثقافي منيع أدى بها إلى مشاكل بلغت حد العناد والعداء مع بلدان تمسكت بداعي الوطنية المستقلة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وحتي في أوروبا مثل فرنسا على عهد ديجول، ولأنه كان لا بد من وعاء جامع يضم السكان على أرض جديدة, فقد راج ادعاء بأن الوعاء الواحد هو الجسارة تشهد عليها معجزة الكشف وسرعة السبق وروح المغامرة وشدة القوة والبأس, فالعالم الجديد هو أرض الميعاد المتحققة كمنحة سماوية للأقوياء والقادرين, وليس لغيرهم من الذين قعدوا في العوالم القديمة وترددوا في ركوب الامواج العاتية لبحر الظلمات– المحيط الاطلنطي-، وبطبائع البشر فقد نشأت فوق ذلك نزعة ادعاء بتميز أمريكي مسحة التميز عن بقية البشر, فهم الأكبر والأقوى, وهم الأوفر غنى, ولهذا السبب يحسدهم الآخرون ويحقدون عليهم وذلك لا يهمهم لأن "نعمة الرب" وحدها كافأت جسارتهم وحرمت منها غيرهم، وفي تعويض مفعول الوطنية أو القومية, فإن مشروع المغامرة الذي تمثل هجرة الأقوياء الأشداء أعطى الأفراد نوعا من مواطنة المصلحة والأمن بديلا عن مواطنة الأرض والبلد، وبناء على ذلك فإن مزاج المواطن الأمريكي يعرف نفسه مع حالة الرخاء ويعرف المجموع- الجماعة - في حالة التهديد, وتلك هي رسالة الخطاب السياسي لأمريكا, فهو إما عملية لتشجيع الطمأنينة الفردية وصرفها إلى شواغلها, وإما عملية لإثارة المخاوف لتعبئة الجماعة وإثارتها, أي أنه باستمرار بيع الحلم أو بيع الخوف, وفي الغالب فإن بيع الطمأنينة تجارة داخلية, وأما بيع الخوف فهو التجارة الخارجية، وقد بلغ من عجز الإمبراطورية الأمريكية عن قبول فكرة القومية, أن رئيسا أمريكيا على مستوى "دوايت أيزنهاور1953- 1961م" أتيح له أن يقود أكبر جيش متحالف في التاريخ لمعركة تحرير أوروبا لكنه فشل, وبالمقابل لم يستطع أن يتقبل فكرة وجود أمة عربية يحوطها الاتصال الجغرافي والتواصل التاريخي والعمق الثقافي المخزون في اللغة الواحدة والعقيدة الواحدة والتجربة المحكومة بمصدر شرعي وقانوني غالب الدولة الأمريكية التي قامت عليها الإمبراطورية الأمريكية لم تكن على وفاق مع فكرة الحدود والسيادة على إقليم معين، لأن هذه الدولة لم تنشأ في إطار دستوري وقانوني له مساحته المعترف بها وعلى القواعد التي أقرتها التجارب في نشأة الدول وتأسيسها, والسبب أن حدود الدولة الأمريكية ظلت مفتوحة تتوسع كل يوم بمختلف الطرق والأساليب حتى أن بعض ولايات الولاياتالمتحدة جرى شراؤها مثل "نيومكسيكو ولويزيانا وكلاهما عمق الجنوب الأمريكي وأغنى بقاعه، ونتج عن ذلك أن مفهوم السيادة على إقليم له حدود مرسومة اكتسب سيولة لم تعرفها التجارب من قبل، ففي الظرف الأمريكي وقع استبدال مبدأ السيادة الثابتة بمطلب الاتساع المستمر وكان الاتساع الأمريكي معتمدا بالدرجة الأولى على الأمن يوفره محيطان: الأطلنطي يحميه إلى درجة العزل الوقائي عن أوروبا في الغرب, والباسيفيك- الهادي– يعزله بنفس الطريقة عن آسيا في الشرق . وبالطبع فإنه اعتمادا على عزلة المحيطين الواسعتين, ظلت الولاياتالمتحدة طوال تمددها القاري بعيدة عن أي خطر مباشر على أرضها وسكانها، وفي حين أن عواصم أوروبا من لندن إلى باريس إلى برلين إلى موسكو تعرضت للدمار وللغزو, فإن واشنطن ونيويورك ولوس أنجلوس وسان فرانسسكو بقيت في سلام وأمن, وكانت القاعدة أن الولاياتالمتحدة تذهب إلى الحرب خارج أمريكا, لكن الحرب نفسها لا تذهب إلى أمريكا، ولهذا اصيبت امريكا بهلع شديد وبهستيريا جنونية مع احداث 11 سبتمبر 2001م, فقد كانت تلك أول مرة يتعرض فيها قلب الإمبراطورية الأمريكية أو بالأصح- مقر الشركة العابرة للقارات - للحريق وتصيبه داخل بيته مفاجأة الدمار في وضح النهار. عقيدة مونرو منذ العهد الاستعماري تعود الأمريكيون على الاستيطان واستمرارية الزحف من الساحل الشرقي إلى الغربي في اتجاه الأرض البكر, فأصبحوا يفكرون بأن ضم أراضي جديدة إنما هو عمل طبيعي عودتهم الأحداث عليه، وفي إطار تصورات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اليوم حول إعادة تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية، حيث دعا ترامب إلى إعادة فرض السيطرة الأمريكية على قناة بنما ولو بالقوة إذا لزم الأمر, وأبدى اهتمامه بضم جزيرة غرينلاند لأسباب تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، هذه التصورات تعكس ميلا واضحا إلى إحياء عقيدة مونرو التي تعتبر القارتين الأمريكيتين مجالا حصريا للنفوذ الأمريكي، وهو توجه يحمل في طياته مخاطر كبيرة على النظام العالمي المتعدد الأطراف والقائم على القواعد الذي تدعي الولاياتالمتحدة رعايته وتتربع على عرش زعامته. شكلت عقيدة مونرو على مدى القرنين الثامن والتاسع عشر مثلت حجر الزاوية في السياسة الخارجية الأمريكية, وتعود التسمية إلى الرئيس الأمريكي "جيمس مونرو 1817- 1825م" الذي كان قد تبنى سياسة معارضة للاستعمار الأوروبي في نصف الكرة الأرضية الغربي– قارة امريكا الجنوبية– وتحولت هذه العقيدة إلى أداة للتوسع الإمبريالي الأمريكي، لهذا فقد ظهرت عقيدة مونرو لأول مرة عام 1823م, وسط مخاوف أمريكية من تدخل القوى الأوروبية في شؤون أمريكا اللاتينية بعد موجة الثورات ضد الاستعمار الإسباني, حيث وضع الرئيس جيمس مونرو آنذاك الأساس لما سمي "بالنظام الأمريكي" والذي يعرف بمبدأ مونرو, الذي يمنع القوى الأوروبية من التدخل في شؤون الكرة الغربي, واعتبرت الولاياتالمتحدة أي محاولة من قبل أوروبا لبسط نفوذها تهديدا لأمنها وسلامها!. التوسع والهيمنة مع ازدياد قوة الولاياتالمتحدة تطورت عقيدة مونرو من دورها كدرع دفاعي إلى أداة هجومية, ففي عام 1845م, استخدم الرئيس الامركي "جيمس بولك" هذه العقيدة لتبرير ضم تكساس وتوسيع الحدود الأمريكية, بحجة "القدر المتجلي" الذي يبرر التوسع الأمريكي كحق طبيعي، وبعد ذلك بعام استندت الإدارة الأمريكية إلى العقيدة ذاتها في حربها مع المكسيك التي انتهت بضم كاليفورنيا وجنوب غرب الولاياتالمتحدة, كما استخدمت العقيدة لتبرير شراء ألاسكا عام 1867م من القيصرية الروسية, وهي خطوة عززت النفوذ الأمريكي في القارة الشمالية وأتاحت الوصول إلى الموارد الطبيعية الغنية للمنطقة. في تسعينات القرن التاسع عشر الميلادي, أصبحت عقيدة مونرو تعبيرا عن الهيمنة الكاملة على نصف الكرة الغربي, وفي عام 1895م, تدخل الرئيس الأمريكي "غروفر كليفلاند" في نزاع حدودي بين فنزويلا وغويانا البريطانية, مؤكدا سيادة الولاياتالمتحدة في القارة, مما وضع سابقة للتدخل الدبلوماسي المباشر في النزاعات الإقليمية, تلا ذلك الحرب مع إسبانيا عام 1898م, التي أسفرت عن حصول الولاياتالمتحدة على "بورتوريكو" وتحول كوبا إلى محمية أمريكية, كما ضمن تدخل الرئيس "ثيودور روزفلت" استقلال بنما عن كولومبيا عام 1903م, لتأمين بناء وشق القناة البانامية, وهو مشروع اعتبر حاسما للهيمنة الإقتصادية والعسكرية الأمريكية– والحال اليوم برؤية ترامب لترحيل سكان غزة انطلاقا من بناء مشروع استثماري اقتصادي إذا لم يكن الهدف منه شق قناة بن غوريون عبر أراضي غزة الذي يعتبر حلم الصهاينة وامريكا والغرب– ولاحقا أكد روزفلت حق الولاياتالمتحدة في التدخل العسكري لحماية مصالحها في أمريكا اللاتينية. لذلك يشكل اصرار الرئيس الامريكي ترامب بضرورة تخلى الدنمارك عن جزيرة غرينلاند والتي تبلغ مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة تكساس هو إحياء لعقيدة مونرو وعودة إليها كوسيلة لإعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية في نصف الكرة الغربي ومواجهة التوسع الصيني والروسي، وقد تكون البداية من بنما وقناتها لتمتد إلى جغرافيا أمريكا اللاتينية لإعادة هندستها وفق المعايير الأمريكية التي تعكس في بعض جوانبها عمليات الشراء الإقليمية التي نفذتها الولاياتالمتحدة في القرون السابقة والتي تعرضت لانتقادات شديدة في ذلك الوقت ولكنها اعتبرت فيما بعد صفقات هائلة, وكان أبرزها الاستحواذ على إقليم لويزيانا من فرنسا في عام 1803م, مقابل 15 مليون دولار, والأسكا من روسيا في عام 1867م, مقابل 7 ملايين و200 ألف دولار، لهذا فليس الرئيس ترامب أول رئيس أمريكي يضع نصب عينيه السيطرة على جزيرة غرينلاند, فقد فكر الرئيس الأمريكي "أندور جونسون" في الاستحواذ عليها في عام 1867م, وعرض الرئيس "هاري ترومان" على الدنمارك 100 مليون دولار من الذهب في مقابلها عام 1946م. ترامب وإحياء العقيدة إن العودة إلى إحياء عقيدة مونرو قد تعرض الولاياتالمتحدة لعزلة دولية, حيث تسعى دول العالم بشكل متزايد إلى التعددية وتعزيز التعاون الإقليمي, فإصرار الولاياتالمتحدة على الهيمنة الإقليمية سيقوض سمعتها كداعم للنظام العالمي القائم على القواعد والقانون كما تقول وتدعي دائما، إلى جانب ذلك هناك مخاطر اقتصادية محتملة فالتوجه نحو سياسات الهيمنة قد يؤدي إلى تعطيل العلاقات التجارية مع شركاء رئيسيين في أمريكا اللاتينية التي تسعى دول عديدة فيها للانفكاك والتحرر من الهيمنة الأمريكية. منذ عهد الرئيس هاري ترومان "1945- 1953م" وصعود الولاياتالمتحدة الأمريكية كقوى عظمي وحتي اليوم, حاول كل رؤساء أمريكا الحديثة التوسع في غرب الغرب الأمريكي وحيثما شاء "القدر المتجلي"، لقد حاولوا التصدي للشيوعية والتوسع الصيني وبسط سيطرتهم على منابع النفط العربية، وهم في كل خطوة من هذا التوسع لم يتخلوا قيد أنملة عن السياق التاريخي العنصري والدموي، لقد تحكمت عقدة الاختيار والتفوق بسلوكهم وبنادقهم فأوهمتهم بأنهم يملكون حق تقرير الحياة والموت لكل من عاداهم, وأنهم في حِل من أي التزام إنساني أو قانوني تجاه الشعوب التي يستعمرونها, لا باعتبار أنها أعراق منحطة وحسب بل لأنها في الغالب مخلوقات متوحشة لا تنتمي للنوع الإنساني، إن كراهية الهنود الحمر استحكمت بالتضحية بالآخر, وهذا ما جعل أمريكا تعيش بضحاياها ولا يمكن فهم حروبها وعلاقاتها الدولية إلا بالبحث عن ينابيع طقوسها الخاصة بالتضحية بالآخر، وهذا ما نشهده اليوم من قرارات الرئيس الأمريكي ترامب حول غزة و ترحيل سكانها والتضحية بهم وشراء قطاع غزة من منظوره الاستثماري الربحي متناسيا أن غزة وطن وهوية وتاريخ وشعب يقاوم الاحتلال منذ 77 عاما, لهذا فلا غرابة فالرئيس الأمريكي اليوم يكشف حقيقة السياسة الأمريكية بصورتها القبيحة حتى لا يعتقد الأغلب أنه مخالف لمن سبقوه من رؤساء البيت الأبيض!.