إن وجود مخاطر خارجية تهدد الأمن القومي الأمريكي هو سياسة أمريكية مستمرة تعمل الإدارات الأمريكية المتعاقبة على ترسيخها حتى اليوم للتدخل في شؤون الدول الأخرى ومنها الدول العربية . انتشرت طُرفة في البيت الأبيض في ظل ولاية الرئيس الأمريكي "داويت آيزنهاور 1953- 1961م" في الخمسينات من القرن الماضي, لتتحول إلى نظرية سياسية حقيقية في عهد الرئيس "رونالد ريجان 1981- 1989م", كيف يمكن التمييز بين أخيار العرب وشرارهم؟ فجاء الجواب أن العرب الأخيار هم الذين يمتثلون لأوامر الولاياتالمتحدةالأمريكية, فيحصلون بالمقابل على الطائرات, ويسمح لهم بإيداع أموالهم في المصارف السويسرية, ويتلقون دعوة لزيارة واشنطن ...إلخ، بل أطلق آيزنهاور وريغان على ملوك المملكة العربية السعودية والأردن وشيوخ وأمراء دول الخليج العربي وشاه إيران وملك المغرب, بالإضافة إلى الملك الليبي إدريس السنوسي, اسم الرؤساء الأخيار، أما الرؤساء الأشرار فهم الذين يعصون أوامر واشنطن كعبدالناصر والقذافي وصدام حسين فيما بعد .. قاعدة عسكرية أثناء الحرب العالمية الثانية 1939- 1945م, أدت العمليات العسكرية إلى وجود قاعدة أمريكية في طرابلس الغرب من أجل إدارة العمليات الحربية ضد دول المحور في شمال أفريقيا وجنوب أوروبا، ومن ذلك الوقت بدأ ظهور ما عرف بقاعدة "هويلس" الأمريكية في منطقة الملاحة بمدينة طرابلس، ومن هناك صارت امريكا لا تتحمس لوحدة ليبيا المستقلة تحت حكم السيد محمد إدريس السنوسي، وعندما صارت ليبيا دولة مستقلة تحت اسم المملكة الليبية المتحدة من 24 ديسمبر 1951م , بزعامة السنوسي تم توقيع اتفاقية بين ليبيا والولاياتالمتحدةالأمريكية لتأجير قاعدة هويلس نظير مساعدات اقتصادية أمريكية، وقد ظلت هذه القاعدة حتى جلت عنها القوات الأمريكية في يونيو عام 1971م، فقد كانت قاعدة هويلس العسكرية تمثل أهمية قصوى من ناحية الإمداد والتموين للأسطول السادس الأمريكي الرابض في البحر الابيض المتوسط وكانت الولاياتالمتحدةالأمريكية تخزن أسلحة نووية فيها تم سحبها بعد الثورة الليبية مباشرة . ليبيا والمصالح الأمريكية في عام 1959م, تم اكتشاف البترول بكميات ضخمة, وتحولت ليبيا من واحدة من أفقر دول العالم إلى مملكة فاحشة الثراء, خاصة في ظل العدد الضئيل من السكان الذين يقطنون الصحاري الليبية الشاسعة, وبرغم التأثير لمبيعات البترول على الدخل الليبي, إلا أن التذمر الشعبي أخذ في التصاعد تدريجيا بسبب استفادة نخبة محدودة من العائلة المالكة وأعوانها من عوائد البترول، لم يكن الملك السنوسي يملك أي مشروع يعمل بواسطته على تطوير البلاد, فكان يعتمد كليا على دعم الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا, في مقابل خدمته لمصالح القوى الإمبريالية, ففي حرب 5 حزيران عام 1967م, أرادت الجزائر إرسال قوات مسلحة لدعم دولة مصر التي كانت تخوض حربا ضد العدو الصهيوني, وقف إدريس حائلا دون مرور الجنود الجزائريين من أراضيه، (إستراتيجية الفوضى– ميشيل كولون وغريغوار لاليو). ومع ذيوع أفكار القومية ووحدة الشعوب والمد الناصري تحول الغضب الشعبي إلى انقلاب عسكري في الأول من سبتمبر 1969م, دبرته مجموعة من الضباط الشباب بقيادة ضابط في الثامنة والعشرين من عمره هو "معمر محمد أبو منيار القذافي", نجحت الحركة وتنازل الملك "محمد إدريس السنوسي" عن عرشه وتم نفيه إلى مصر, ألغيت الملكية وتأسست الجماهيرية العربية الليبية بزعامة العقيد قائد الثورة معمر القذافي- الذي لم يحمل لقب رئيس جمهورية-، لم تسبب ثورة الفاتح من سبتمبر أي قلق في أيامها الأولى بالنسبة للإدارة الأمريكية, ولكن لم تكد تمضي أشهر قليلة حتى تسرب الشك إلى الأمريكان حيال الايدلوجية الليبية للثورة الليبية, فبعد نجاح الثورة توجه الرئيس القذافي إلى مصر في أول زيارة رسمية له, واجتمع بعبد الناصر، كان أمام القذافي خياران سياسيان, تمثل أولها بترك النفط الليبي بين أيدي الشركات الغربية تماما كما فعل سلفه الملك إدريس لتتحول ليبيا إلى مملكة نفطية على غرار الدويلات الموجودة في الخليج العربي, أما الخيار الآخر, فكان يتمثل باتباع طريق مستقل عن قوى الاستعمار الجديد- أمريكا– وهذا كان خيار القذافي, فبدأ بإغلاق القواعد العسكرية التي أنشأتها الدول الغربية في البلد, وتأميم النفط الليبي, ما أثار غضب وحفيظه القوى الإمبريالية ففي مارس 1970م, قامت ليبيا بإغلاق القاعدة العسكرية البريطانية في "طبرق", وتلاها في يونيو من نفس العام غلق القاعدة الأمريكية في "هويلس" بالقرب من العاصمة طرابلس، وبدأت تتضح توجهات القيادة الليبية الجديدة بتأميم جزء من ممتلكات شركات البترول الأمريكية وتأميم معظم المصالح الأجنبية . دولة مارقة كان تحول ليبيا من حليف للغرب إلى معاد له في فترة ما بين الحربين العربيتين مع العدو الصهيوني "يونيو 1967 واكتوبر 1973م" يمثل أمرا شديد الخطورة, إذ أن الموقع الليبي يتيح للغرب وخاصة أوروبا شراء خمسة ملايين برميل يوميا من البترول الليبي دون الاعتماد على قناة السويس وايضا مضيق باب المندب المغلقان بسبب الحرب أو الاضطرار إلى الدوران حول رأس الرجاء الصالح وبأقل تكلفة ممكنة، ثم بدأت الإدارة الأمريكية تراقب بتخوف بعض التصرفات الليبية ووصفتها بالمارقة, فقد استضافت ليبيا بعض عناصر المقاومة الفلسطينية على أراضيها وقامت بإنشاء معسكرات لتدريبهم, وقدمت ليبيا دعما ماليا كبيرا لمناضلي جنوب افريقيا ضد النظام العنصري والتي كانت جنوب افريقيا آنذاك حليفا قويا لواشنطن، وكانت ليبيا تشتري في أوائل السبعينات صفقات أسلحة ضخمة من الاتحاد السوفيتي تقدر بنحو مليار دولار سنويا، وفي النصف الثاني من عام 1973م, قامت ليبيا باحتلال إقليم "أوزو" شمالي دولة تشاد التي تقع إلى الجنوب من ليبيا, وكان هذا الإقليم غنيا باليورانيوم, مما ساهم في قلق امريكا من ذلك وفي عام 1974م, خططت ليبيا للوحدة مع تونس بعدما فشلت الوحدة المصرية السورية عام 1961م, في صورة ما يسمى بالجمهورية العربية الإسلامية، وفي الوقت نفسه حاولت واشنطن بمعاونة لندن أن يرتبا لمقاطعة غربية للبترول الليبي, غير أن ليبيا وجدت بدائل سريعة في أوروبا الشرقية مكنتها من مقاومة الضغط الأمريكي، وفي تلك المرحلة تم توجيه بعض الاتهامات للقذافي بضلوعه في مخططات لاغتيال بعض زعماء الدول الأفريقية والعربية . حماية العدو الصهيوني رغم أن الممارسات الليبية كانت تشجع الجميع على عداء النظام الليبي إلا أن الولاياتالمتحدة كانت لديها الرغبة في المبالغة والتهويل من شأن القذافي ومدى خطورته على السلام العالمي, تماما كما كان بن لادن ثم صدام حسين من بعده! لذلك اتخذت واشنطن سياستها المعتادة بإلصاق جميع التهم الممكنة وغير الممكنة بالقذافي عدوها الخطير .وتعود الدوافع الامريكية بشكل واضح رغبتها في حماية العدو الصهيوني من أية تصرفات عشوائية, وايضا الرغبة في تفرقة العرب عن بعضهم البعض واستغلال وجود أسباب تساعد على تدعيم الخلافات وخاصة انه كان هناك عدم ارتياح من موقف ليبيا تجاه عدد من القضايا العالمية آنذاك مثل مساندتها لإيران في حربها ضد العراق 1980- 1988م, ودعمها للحركات الثورية في العالم النامي في افريقيا وأمريكا الجنوبية وغيرهما . وكان أيضا من ضمن الدوافع الأمريكية البحث عن أعداء ضعفاء لا يشكلون خطرا حقيقيا وليسوا على علاقات وثيقة مع موسكو, يمكن من خلالهم أن تستعيد الولاياتالمتحدة بعض كبريائها المفقودة منذ حرب فيتنام وخروجها منها عام 1975م, وكان ذلك ملمحا من ملامح السياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس ريجان والأكثر وضوحا من ذلك كله هو شخصية الزعيم الليبي التي تشجع على اتخاذه عدوا يقنع الرأي العام الأمريكي بمدى خطورته على السلام العالمي- وهذه سياسة امريكا متبعة إلى اليوم- . عدوان امريكي مارست الولاياتالمتحدةالأمريكية عدة دعاوي كاذبة وافتراءات واستخدمت اساليب وضغوطات وتصرفات مختلفة مستخدمة كل قوى الضغط لديها سياسيا اقتصاديا عسكريا اعلاميا ضد ليبيا ويتضح ذلك من خلال: - في 1977م, أضاف البنتاجون اسم ليبيا إلى قائمة أعداء أمريكا . - في يناير 1978م, أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن: (ليبيا تأتي في مقدمة الدول التي تقترح أمريكا اتخاذ إجراءات ضدها وذلك لموقفها من القضية الفلسطينية والسلام العربي الإسرائيلي). - وفي يونيو 1980م, وضعت المخابرات الأمريكية خطة لضرب طائرة القذافي في أثناء رحلة له إلى أوروبا الشرقية, وقد تم ضرب طائرة إيطالية فوق مياه أوستيكا معتقدين أنها طائرة القذافي! وفي نفس العام بدأت صوت المعارضة الليبية يعلو في الخارج, وكان تقف خلفها دعم غربي وخاصة من الولاياتالمتحدة . - وفي مايو 1981م, مع بداية عهد الرئيس ريجان تم إغلاق السفارة الليبية نهائيا في واشنطن, ومنذ الأسابيع الأولى لولاية ريجان كان هناك إصرار على ضرورة استفزاز القذافي لوضعه في مكانه المناسب المخطط له كأحد ألد أعداء البشرية الذين يجب اتقاء شرهم المستطير بحسب وصفهم لمن يعارض الهيمنة والغطرسة الأمريكية . - ففي مارس 1981م, أعلن وزير الخارجية الأمريكية آنذاك "ألكسندر هيج" بأن: (لديه أدلة دامغة على وجود معسكرات تدريب إرهابيين في ليبيا) . - وفي اغسطس 1981م, قامت ثماني طائرات أمريكية بإسقاط طائرتين من طائرات السلاح الجوي الليبي في أثناء مهمة استطلاع روتينية كانت تقوم بها الطائرات الليبية فوق المياه الليبية، وفي اكتوبر اتهمت واشنطن طرابلس بمحاولة اغتيال السفير الأمريكي في ايطاليا, وفي نوفمبر أعلنت واشنطن عن اكتشافها لمؤامرة ليبية لزرع متفجرات داخل السفارة الأمريكية في الخرطوم, وفي 6 ديسمبر اتهمت امريكا ليبيا باغتيال الملحق العسكري الأمريكي في باريس, وفي اليوم التالي أعلن الرئيس الامريكي ريجان عن وجود أدلة لا تقبل الشك تثبت تورط النظام الليبي في إرسال فرق اغتيال لقتل كبار موظفي الحكومة الأمريكية, وقام بإصدار أمر لكل الرعايا الأمريكيين الموجودين في ليبيا آنذاك وعددهم "1500" بمغادرة ليبيا فورا . - وفي الأسابيع التالية أطلقت الصحافة الأمريكية على القذافي لقب "أخطر رجل في العالم" ! - وفي مارس 1982م, أعلنت الولاياتالمتحدة حظر استيراد البترول الليبي وحظر تصدير التكنولوجيا الأمريكية الخاصة بصناعة البترول . - وفي عام 1984م, اتهمت الولاياتالمتحدة ليبيا بوضع ألغام في البحر الأحمر لتفجير ناقلات البترول العملاقة . - وفي عام 1985م, وجهت امريكا اتهاماتها إلى ليبيا بمسؤوليتها عن 15 عملا إرهابيا أثناء ذلك العام, وفي العام التالي 1986م, وصلت الأعمال الإرهابية التي يُفترض مسؤولية ليبيا عنها إلى 19 عملا عدوانيا . مجلس الأمن القومي في السنوات الأولى من الثمانينات عكف مجلس الأمن القومي الأمريكي على دراسة شخصية القذافي والوضع العام في ليبيا من أجل التحرك في اتجاهين : الأول: هو كيفية استفزاز القذافي حتي يقع في المحظور ويهاجم مصالح حيوية أو يغتال شخصيات عامة إذا ما شعر بأن واشنطن تخطط للتخلص منه بالقتل أو بقلب نظام حكمه . الثاني: هو تأليب شعبه عليه وإقناعهم بأنه العقبة الوحيدة أمام رضا الولاياتالمتحدةالأمريكية والغرب من ورائها, وأن الشعب الليبي من بعده سوف يعيش أفضل بكثير!. اغراق السفن في يناير 1986م, قامت الولاياتالمتحدةالأمريكية بقطع جميع العلاقات الاقتصادية مع ليبيا, ثم اتخذ قرار في أحد اجتماعات البيت الأبيض بالعمل على إثارة القذافي بإرسال مجموعة من السفن والطائرات الحربية إلى خليج سيدرة الذي تطل عليه ليبيا, لتتخذ من ذلك ذريعة لشن هجوم عسكري على ليبيا في حالة تم ردود فعل ليبية، وحينما قرر القذافي مد المياه الإقليمية الليبية في البحر المتوسط إلى مسافة 120 ميلا بدلا من 12 ميلا, قامت المقاتلات الأمريكية بطلعات جوية متكررة فوق المياه الليبية, وفي إحدى المرات قامت ليبيا بإطلاق عدة صواريخ في اتجاه الأهداف الأمريكية ورغم انها لم تصبها, لكن ذلك كان عذرا كافيا حتي تتخذ أمريكا قرارها بمهاجمة السواحل الليبية وإغراق إحدى السفن, ثم الإعلان عن معاملة أية سفينة أو طائرة حربية ليبية تفكر في عبور مياه ليبيا الإقليمية باعتبارها عدواً وهدفاً مشروعا، وهو ما تم بالفعل فقد تم إغراق سفينة لخفر السواحل الليبية بمجرد دخولها المياه الدولية فضلا عن تدمير سفينة أخرى مما أسفر عن غرق 72 بحارا ليبيا . حادثة برلين في 5 أبريل 1986م, انفجرت قنبلة في ملهي ليلي في برلين أسفرت عن مصرع جندي أمريكي واحد, وعلى الفور أشارت أصابع الاتهام إلى ليبيا, وفي 14 أبريل قررت واشنطن الانتقام لحادث برلين– وما اكثر جرائم امريكا بذرائع واهية– فقامت بإرسال تسع طائرات "F 111" لمهاجمة مجمع القذافي السكني تحمل مجتمعة "36 قنبلة" تزن "2000 رطل", وكان توقيت الضربة تسبق بقليل نشرة الأخبار المسائية, وأعدت نشرة إخبار لإعلان أن مقتل القذافي جاءت كنتيجة عارضة لهذا العمل الذي يهدف إلى الدفاع عن النفس, لكن القذافي نجا, وإن اصابت الضربات سبعة من أبنائه وزوجته وقتلت مائة من المدنيين إضافة إلى مقتل ابنته، وسرعان ما ظهر الرئيس الأمريكي ريجان أمام الرأي العام الأمريكي مؤكدا على وجود أدلة دقيقة وقاطعة بشأن تورط ليبيا في حادث تفجير الملهي الليلي في برلين, وأن الهجوم الأمريكي لم يكن سوى رد فعل تلقائي على الحادث الأليم. وعندما مرت الأيام ولم تقم الإدارة الأمريكية بالإفصاح عن تلك البراهين الساطعة والدقيقة, عادت واشنطن لتبرير هجومها الجوي على لسان أحد المسؤولين الذي أكد أن ضرب ليبيا كان من أجل: (الدفاع عن النفس ضد هجوم مقبل)!، (الولاياتالمتحدةالأمريكية- شادي عبدالسلام) . وهذا العدوان انطوي على رسالة مقتضبة من واشنطن إلى الرؤساء العرب كافة, تقول لهم فيها إن الولاياتالمتحدةالأمريكية سترد على كل من يقف في وجهها, وإن ردها سيكون قويا وسريعا حتى على بعد آلاف الكيلومترات.