أعد يوديت رونن خبير الشؤون الإفريقية بمركز دايان للدراسات السياسية والإستراتيجية والمتخصص في دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا الصهيوني ورقة بحثية هامة، تطرق فيها للحديث عن أسباب ونتائج التقارب الليبي - الروسي الأخير، في أعقاب الزيارة التي قام بها الزعيم الليبي معمر القذافي إلى العاصمة الروسية موسكو قبل نحو أسبوعين، والتي التقى فيها بكبار القادة الروس وعلى رأسهم الرئيس الروسي ديمتري ميدفيدف ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين، وهي الزيارة التي أعادت طرح أسئلة حول مستقبلتنامي الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط من جهة وعودة طرابلس لأحضان روسيا مرة أخرى بعد التقارب الذي كانت حققته مع الغرب وأمريكا على وجه الخصوص. وأشار الخبير الصهيوني في مستهل دراسته التي حملت عنوان "القذافي يذهب إلى موسكو" إلى أنه وفي مطلع شهر نوفمبر 2008، قام الزعيم الليبي معمر القذافي بنصب خيمته في حديقة الكرملين، وهو الأمر الذي يعيد من جديد طرح سؤال: ماهو الأمر الذي دفعه للعودة إلى موسكو من جديد، بعد غياب دام ما يقرب من ثلاثة عقود؟ وما هي الأمور التي قام بمناقشتها مع مُضيفيه الروس؟ وهل وصل إلى موسكو وهو يحمل قائمة مشتريات؟ وهل كانت زيارة لموسكو ناجحة، من وجهة نظره؟ وما الذي يمكن أن نتعلمه من الزيارة حول سياسة ليبيا الخارجية؟. علاقات إستراتيجية قديمة مع موسكو ثم بدأ الخبير الصهيوني يوديت رونن الإجابة على تلك التساؤلات، مشيرًا إلى أنه وفي مطلع عقد السبعينات من القرن الماضي، ربط العقيد الليبي معمر القذافي مصير بلاده بالاتحاد السوفيتي من الناحية الإستراتيجية والسياسية والعسكرية على الرغم من عدم الارتباط من الناحية الأيدلوجية، وكان مهندس ومدير علاقات طرابلس مع موسكو هو " عبد السلام جلود " ، وهو ضابط في الجيش الليبي وكان الذراع الأيمن للقذافي في انقلابه الذي أطاح بالحكم الملكي بقيادة الملك إدريس السنوسي عام 1969، وأسفرت زيارات جلود المتكررة لموسكو عن حصول الجماهيرية الليبية على مساعدات عسكرية ضخمة وتعاون في المجالين الإستراتيجي والدبلوماسي، وكان لتلك العوامل بالغ الأثر في التحول السريع، وبطريقة لم يسبق لها مثيل، لوضع ليبيا الإقليمي والدولي، وعلى أية حال، ألقت الغيوم بظلالها على العلاقات الثنائية بين ليبيا وموسكو بسبب إبعاد جلود عن النظام الليبي خلال النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي والتوتر المتزايد بين طرابلسوموسكو في أعقاب عجز ليبيا عن تسديد ديونها لموسكو والتي وصلت لنحو يقرب من 5 مليارات دولار، والتي نتجت عن صفقات شراء الأسلحة والمعدات العسكرية. طرابلس في أعقاب الانهيار السوفيتي ثم أشار الخبير الصهيوني إلى أن انهيار الإمبراطورية السوفيتية ونهاية الحرب الباردة في أوائل التسعينات من القرن الماضي خلّف فجوة واسعة في سياسة طرابلس الخارجية، حيث أصبحت ليبيا في هذا الوقت محرومة من راعيها السوفيتي وفي اللحظة الفعلية التي وصلت فيها مواجهتها مع الولاياتالمتحدة لنقاط ذروة جديدة ، ووصل " العدوان الاستعماري " الأميركي، طبقًا لما تصفه ليبيا والذي كان يهدف إلى تعزيز الهيمنة الأميركية في جميع أنحاء العالم، إلى نقاط ذروة جديدة عندما أجبرت قوات التحالف بقيادة الولاياتالمتحدة القوات العراقية على الخروج من الكويت، ونتج عن هذا العمل الذي قامت به الولاياتالمتحدة شعور بالقلق داخل ليبيا، كما شعر القذافي فى حينه بأنه يقف بمفرده وأنه لا يملك وسائل للدفاع في مواجهة " رجل الشرطة الدولي "، بحسب وصفه الغاضب للولايات المتحدة. ويرى يوديت رونن فى معرض ورقته البحثية أن القذافي اقتنع بأن ليبيا أصبحت أيضًا هدفًا لتغيير نظام الحكم، بل إنه يمكن القول بأن صدمة الهجوم الجوي الذي شنته الولاياتالمتحدة على مقر إقامة القذافي في طرابلس عام 1986 لا تزال عالقة في ذهنه وتعزز من مخاوفه ، واقتنع العقيد القذافى أن " البيت الأسود " في واشنطن سيستغل ضعفه على الساحتين العربية والدولية ويضاعف من جهوده الهدامة في مواجهة " الثورة الليبية ". وتابع خبير مركز دايان الصهيوني حديثه بالقول" إنه وعلى مدار عقد التسعينات من القرن الماضي، كان القذافي مجبرًا على التكيف مع التهديدات المتزايدة لموقفه السياسي داخل ليبيا ولحياته أيضًا، كما نبعت الصعوبات السياسية التي واجهته من مجموعة خطيرة من المشاكل الداخلية والدولية ، وكان العامل الأساسي في هذه المشاكل هو الحلقة الخانقة من " عقوبات لوكيربي " التي قادها الغرب ضد ليبيا، وفُرضت هذه العقوبات على ليبيا عام 1992 لإجبارها على تسليم اثنين من عملاء مخابراتها يشتبه في أنهما وراء إسقاط طائرة تابعة لشركة " بان أمريكان " الأميركية فوق قرية لوكربي، بإسكتلندا في ديسمبر 1988، وأدين أحد الرجلين وتم تبرئة ساحة الآخر ، وكانت هذه العقوبات بمثابة قبضة خانقة على الاقتصاد الليبي الذي تسيطر عليه مشتقات الهيدروكربون، حيث تراجع الدخل بسبب الهبوط الحاد في أسعار النفط، ونتج عن ذلك صعوبات اقتصادية واجتماعية أدت إلى زيادة التأييد للمعارضة الإسلامية في ليبيا، التي سعت إلى الإطاحة بالقذافي والذى وصفه الإسلاميون هناك " بالمهرطق "، وكان هذا أصعب وقت بالنسبة للقذافي، حيث كان عليه أن يواجه عددًا من الثورات العسكرية ومحاولات للاعتداء على حياته واغتياله. تخفيف وطأة العداء مع الغرب ومن ثم، كان الزعيم الليبي مجبرًا على تخفيف عدائه باتجاه الغرب ، وعلى هذا الأساس تم التوصل لاتفاقيات بين ليبيا والغرب حول القضايا الرئيسية محل الخلاف، واشتملت هذه الاتفاقيات على دفع تعويضات لضحايا تفجير لوكيربي في الوقت الذي قدمت فيه ليبيا المسئولين عنه للمحاكمة بالإضافة إلى تخلي ليبيا عن دعمها للإرهاب الدولي وتفكيك برنامجها السري للأسلحة النووية في عام 2003، وفي المقابل، استأنفت الحكومات الغربية علاقاتها الدبلوماسية مع طرابلس ودفعت بأموالها وتكنولوجيتها إلى داخل البلاد، وبالإضافة إلى ذلك، رفعت الولاياتالمتحدة اسم ليبيا من قائمتها السوداء للدول الداعمة والراعية للإرهاب، وحينذاك تنفس القذافي الصعداء وتوقع أن يتلقى المزيد من الجوائز، خاصة من جانب الولاياتالمتحدة، في مقابل " سلوكه الجيد " الذي لم يسبق له مثيل" ، ومع ذلك، لم تتحقق توقعاته على الساحة الدبلوماسية ولا فيما يتعلق برغبته في الحصول على معدات عسكرية وتكنولوجيا متقدمة. العودة لروسيا من جديد ويرى الخبير الصهيوني أنه وبالتوازي مع الإحباط المتزايد الذي أصاب القذافي بسبب سياسة الولاياتالمتحدة معه، فقدت واشنطن جزءًا من بريقها من وجهة نظره، فالقصور في قدرة الولاياتالمتحدة أو إرادتها على التصدي للبرنامج النووي لكل من إيران وكوريا الشمالية والفشل في فرض عقوبات صارمة ومؤثرة عليهما لم تضعف النفوذ الأميركي في أعين ليبيا فحسب، بل أغضبت القذافي أيضًا فضلاً عن تعرضه للانتقاد من جانب المتشددين في ليبيا والعالم العربي، بسبب لما زُعم بأنه تسليم للولايات المتحدة وتخلي عن حق ليبيا في التسلح النووي ، وبالإضافة إلى ذلك، تشوهت صورة أمريكا في أعين ليبيا بسبب الوجود العسكري المستمر للولايات المتحدة في العراق وعجزها عن منع ظهور طالبان من جديد في أفغانستان وعدم الاستقرار المتزايد في باكستان النووية والوجود المستمر للشبكات الإرهابية الجهادية، وكان القذافي لا يزال يعلم جيدًا بقوة الغرب، وبالتالي حرص على عدم تقويض عملية التطبيع معه، وكانت لهذه العملية أهميتها خاصة بالنسبة لصالح صناعة النفط في ليبيا، التي تعتبر العمود الفقري للاقتصاد الليبي. كما يرى يوديت رونن أن دفع ليبيا للولايات المتحدة مبلغ 1. 5 مليار دولار وهو الجزء الأخير من تعويضات تفجير لوكيربي، في اليوم ذاته الذي قام فيه القذافي بزيارته لموسكو، يشكل دليلاً قويًا على الأهمية التي وضعتها طرابلس على الحفاظ على علاقاتها الجيدة مع واشنطن. وبحسب خبير مركز دايان، فإن القذافي ما كان دائمًا يواجه صعوبات ليتكيف مع اختفاء راعيه السوفيتي السابق وما نتج عن ذلك من نتائج سلبية على نظامه، وقد استمر بالفعل في النظر إلى روسيا على أنها قوة خارقة توقع أن تنهض مرة أخرى، وكان للارتفاع في أسعار النفط والغاز في بداية عام 2008 واحتياج أوروبا المتزايد لموارد الطاقة الروسية أثر في تعزيز هذه الصورة لموسكو وليس فقط في ليبيا، وكان للهجوم العسكري الروسي ضد جورجيا في أغسطس 2008 أثر في تعزيز صورة موسكو. وهو الأمر الذي أبرزته وسائل الإعلام العربية والتي أكدت على عودة" الدب الروسي من جديد " فيما أعلنت الصحف العربية عن انتهاء شهر العسل بين روسيا والغرب وأن روسيا " تلعب الآن لعبة جيوسياسية جديدة "، وأوحت الصحف العربية بتجدد التوتر بين الشرق والغرب الذي كان سمة مميزة لحقبة الحرب الباردة. وكانت وجهة نظر القذافي مشابهة لمثل هذه الآراء. تعاون إستراتيجي مع موسكو واعتبر الخبير الصهيوني أنه وخلال النصف الأول من عام 2008، كانت ليبيا أحد المستفيدين من الارتفاع في أسعار النفط التي حولت مبالغ مالية ليس لها مثيل إلى خزانتها ودفعتها إلى البدء في مشروعات تنموية ضخمة، وبسبب ذلك، نما اهتمام الدول الغربية والآسيوية في هذه المشاريع، وتزامنت الزيارة الرسمية التي قامت بها كوندليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية لطرابلس في مطلع سبتمبر 2008 مع الاحتفالات بذكرى وصول القذافي للسلطة، وكانت هذه الزيارة بمثابة إشارة فوق العادة من جانب الولاياتالمتحدة التي أظهرت اهتمامها في الحصول على حصة من عقود مشاريع التنمية للشركات الأميركية، وعلى الرغم من ذلك، لم تسارع الولاياتالمتحدة للرد على مطالب ليبيا بشراء معدات عسكرية أو المطالب الأخرى التي تُعتبر مهمة بالنسبة لهيبة النظام الليبي. ويرى يوديت رونن أنه ومع إدراك رغبة روسيا في إشراك نفسها من جديد في المنطقة، سعد القذافي باستضافة رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين في أبريل 2008 وباستعادة التعاون في مجالات الطاقة وشراء المعدات العسكرية، وكان الجيش الليبي - الذي أنهى أحدث نزاعاته في تشاد المجاورة عام 1987 بهزيمة ساحقة وفقدان ثلث معداته في أمس الحاجة لعودة المساعدات العسكرية واستعادة وضعه ومكانته التي كان عليها من ذي قبل. وعلى هذا الأساس، وجد العقيد الليبي معمر القذافي أنه يجب عليه أن يتوجه من جديد صوب موسكو ويعيد بناء علاقاته مع الكرملين، ولهذا قرر أن يسافر إلى موسكو وهو مسلح بقائمة مشتريات تقدر قيمتها بملياري دولار، وضمت هذه القائمة طلبات لشراء صواريخ متقدمة مضادة للطائرات ومروحيات ودبابات وغواصات بل ومفاعل أبحاث نووية للأغراض السلمية، ويشير يوديت رونن إلى أن العديد من التقارير الغربية تؤكد أنه قد جرى بالفعل التوقيع على عقد بيع المفاعل وأن روسيا قامت بشطب ديون ليبيا المستحقة لها في مقابل المشتريات التي تقدر قيمتها بملياري دولار، كما اعتبر الخبير الصهيوني أنه ومن خلال وجهة النظر الروسية، كان القذافي بمثابة المشتري الممتاز، لأنه لم تكن لديه القدرة على ضخ كميات ضخمة من العملة الصعبة داخل خزينة الدولة فحسب، بل تمكن أيضًا من إمداد الأسطول الروسي بقاعدة بحرية في البحر الأبيض المتوسط، حيث كانت روسيا مهتمة أيضًا بالحصول على مشاركة ليبيا في اتحاد دولي للغاز الطبيعي المقترح إنشاؤه على غرار أوبك. ثم أشار خبير مركز دايان الصهيوني إلى الإمكانيات الاقتصادية الجديدة بالنسبة لليبيا مع كل من الغرب وروسيا، خاصة فيما يتعلق بمجال التجارة الموسعة ستمد طرابلس بإمكانيات دبلوماسية بمقدورها أن تعزز من النظام الليبي على الساحة الداخلية والإقليمية والدولية، وكان إعلان القذافي عشية مغادرته لموسكو والانتخابات الرئاسية الأميركية، بأن ليبيا والولاياتالمتحدة لا يعتبرا أصدقاء أو أعداء، وهو ما يعد إشارة واضحة لواشنطن بأن ليبيا ليست تحت سيطرتها وأن القذافي ينوي الحصول على أقصى استفادة من علاقاته مع كل من واشنطنوموسكو، وربما يعتبر هذا محاكاة لبطله القديم، الراحل جمال عبد الناصر، وسياسته في عقد الخمسينات من القرن الماضي والتي أطلق عليها سياسة " الحياد الإيجابي ". وأخيرًا فإن الثابت من الورقة البحثية التي أعدها الخبير الصهيوني تحمل مخاوف تل أبيب من عودة ليبيا إلى أحضان روسيا من جديد، بعد أن كانت قد أزاحت عن نفسها كاهل التقارب بين العديد من الأنظمة العربية وموسكو، ورأت في تقارب بعضها من واشنطن فرصة سانحة للتقارب بشكل أو بأخر من تلك الأنظمة، لكن يبدو أن العقيد القذافي دائمًا ما يحمل تحت عباءته الكثير من المفاجآت. * نقلاً عن مفكرة الاسلام