من خلال استعراض المؤشرات والوقائع الميدانية والسياسية التي أفرزتها عملية طوفان الأقصى، تتجلى أمامنا بوضوح علامات بارزة على تراجع الهيمنة الأمريكية على المنطقة العربية، حتى وإن كانت جذور هذا التراجع قد بدأت مع الانسحاب الأمريكي من العراق، وما تبعه من إعادة تموضع روسي بعد موجة "الربيع العربي"، وصعود النفوذ الصيني في الإقليم، إلا أن طوفان الأقصى جعل هذا التراجع واقعاً محسوساً وصادماً، ومثل نقطة تحول استراتيجية كشفت مدى هشاشة كثير من ركائز المشروع الأمريكي في المنطقة، ويمكن قياس مستوى هذا التراجع من خلال مدى تحقق أو إخفاق الأهداف الأساسية للاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، والتي تتمثل في الحفاظ على السيطرة الجيوسياسية، وتأمين منابع النفط وخطوط إمداده، وضمان أمن الكيان الإسرائيلي وتفوقه العسكري. من الناحية الجيوسياسية، لم تعد الولاياتالمتحدة قادرة على فرض نفوذها الكامل كما كانت تفعل سابقاً، فقد أخذت السياسة الأمريكية بالابتعاد التدريجي عن الانخراط العسكري المباشر في المنطقة، وجرى تحويل الاهتمام إلى أولويات جديدة كالصراع مع الصين، ولكن مع تفجر طوفان الأقصى، وجدت الولاياتالمتحدة نفسها مجبرة على العودة إلى الساحة العربية، لكنها عادت إلى بيئة متغيرة ومعادية لم تعد تقبل بالهيمنة من طرف واحد، فتنامي محور الجهاد والمقاومة فرض على واشنطن معادلة جديدة، فلم تعد قادرة على فرض سيطرتها على المضايق الحيوية كالبحر الأحمر وخليج عدن وباب المندب، إذ واجهت هناك قوة ميدانية صلبة تمثلت في القوات المسلحة اليمنية، التي استطاعت إجبار حاملات الطائرات والسفن الحربية الأمريكية على الانسحاب، وفرضت حظراً بحرياً على السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية أو التابعة لها، وقد ترتب على هذا الواقع الجديد ارتفاع كبير في كلفة النقل البحري والتأمين وأسعار البضائع، ناهيك عن الهزات النفسية والاستراتيجية التي أحدثها خروج القوات الأمريكية من هذه المياه تحت الضغط، وما رافق ذلك من تهديدات إيرانية بإغلاق مضيق هرمز، وهجمات متكررة من فصائل عراقية على قواعد أمريكية في العراق وسوريا، ووصول الهجمات إلى قاعدة النقب في الأردن. كل ذلك عرى ضعف القوة الأمريكية عن حماية نفسها، ناهيك عن حماية حلفائها أو السيطرة على الممرات التي كانت تُعد خطوطاً حمراء للأمن القومي الأمريكي. ان التعرض المتكرر للقواعد الأمريكية التي تُحاط عادة بإجراءات حماية صارمة، أعاد التذكير بأن تواجد هذه القواعد لم يعد ميزة استراتيجية، بل بات يشكل عبئاً أمنياً على الولاياتالمتحدة، وهو ما يقوض قدرتها على ضمان تدفق النفط وتأمين مصالحها الحيوية في منابع الطاقة، كما أن الأطراف المنضوية في محور الجهاد والمقاومة أرسلت رسائل واضحة بأنها لن تسمح لأمريكا بالتصرف في المنطقة كما كانت تفعل سابقاً. لقد أصبح الخطر على المصالح الأمريكية حقيقياً، لا محتملاً، وباتت الحماية بالقوة غير كافية أو غير فعالة، ما أدى إلى تراجع الثقة بقدرة أمريكا على الاستمرار كقوة مهيمنة منفردة. فوق ذلك، لم تعد الولاياتالمتحدة الجهة الوحيدة القادرة على فرض السياسات ورسم المشهد الإقليمي، فمحور الجهاد المقاومة نجح في إفشال الضغوط الأمريكية في أكثر من ملف، من بينها ملف الأسرى مع المقاومة الفلسطينية، وملف العمليات اليمنية في البحرين الأحمر والعربي، وكذلك الملف النووي الإيراني الذي لم تعد فيه أمريكا قادرة على انتزاع تنازلات، ولا على فرض شروطها، كما أن واشنطن فشلت في خلق رأي عام دولي موحد خلف رؤيتها للمنطقة، ولم تستطع حشد تحالفات فعلية تسند إسرائيل في عدوانها على غزة، كما فعلت سابقاً مع تحالف "حارس الازدهار" أو غيره، وهو ما ساهم في زعزعة ثقة الشركاء والحلفاء، وطرح تساؤلات صريحة حول مصداقية وفعالية المظلة الأمريكية، ويبدو أن هذا الفشل سيترك أثره الواضح على مشروع "اتفاقات أبراهام"، إذ لم تعد الحكومات المطبعة قادرة على تسويق التطبيع لشعوبها، ولا حتى فرضه بالقوة الناعمة، فقد أعاد طوفان الأقصى إحياء القضية الفلسطينية كقضية مركزية، وأثبتت أن نبض الشارع العربي لا يمكن تجاوزه، بل ويملك القدرة على التأثير في قرارات الدول. أما الهدف الثاني في الاستراتيجية الأمريكية، المتمثل في حماية أمن الكيان الإسرائيلي، تلقى هو الآخر ضربة قاصمة، فقد نجح محور الجهاد والمقاومة في نقل المعركة إلى داخل الأراضي المحتلة، وكسر عقيدة الأمن الإسرائيلي القائمة على إبقاء الحرب خارج الأراضي المحتلة، كما أن الهجمات اليمنية على القوات الامريكية في البحر الأحمر حطمت ما يسمى بالعمق الاستراتيجي البحري للكيان، ومنعت عنه الإمدادات والتحركات التجارية والعسكرية، دون أن تتمكن أمريكا من تحييد الجبهة اليمنية، هذه التطورات جعلت أمن إسرائيل على المحك، وكشفت عن محدودية الدعم الأمريكي في تأمين الكيان، بل وعرّت عجزه عن التعامل مع جبهة واحدة من جبهات المقاومة، فما بالك بوحدة الساحات التي أعلنتها أطراف المحور. أما التفوق العسكري الإسرائيلي، القاعدة الثانية في العقيدة الأمنية الصهيونية، بدوره تهاوى أمام طوفان الأقصى، فالدعم الغربي والأمريكي لم يفلح في منح الكيان ميزة حاسمة، إذ فشلت القبة الحديدية والمنظومات الدفاعية في حماية المدن والمستوطنات، وظهر الجيش الذي طالما روجت له أمريكا على أنه لا يُقهر، في حالة من الانهيار النفسي والعملياتي، بينما نجحت المقاومة بتقنيات بسيطة في فرض معادلة ردع فعالة، واتضح أن الاتفاقات الموقعة بين الكيان وبعض الأنظمة العربية، لم تقدم له الأمن الحقيقي، بل على العكس، زادت من حجم الغضب الشعبي العربي. كما أن الولاياتالمتحدة كذلك لم تعد قادرة على تفكيك المواقف العربية كما كانت تفعل سابقاً، فاستراتيجية تجزئة الخصوم فشلت في ظل تنامي مفهوم "وحدة الساحات" الذي أثبتته العملية، حيث لم تعد هناك مواجهة منفردة لأي فصيل، بل هناك منظومة إقليمية متكاملة تتعامل بروح جماعية، وتتحرك وفق مبدأ توازن الردع. وقد نجحت المقاومة اليمنية في تحييد الدعم الأمريكي المباشر للكيان، بينما لم تنجح واشنطن في تحييد اليمن من دعم غزة. كذلك تم تحييد العديد من الوكلاء الإقليميين والدوليين لأمريكا، من الأنظمة إلى التنظيمات المرتبطة بها، والتي لم تعد قادرة على شن حروب بالوكالة أو تخريب الداخل العربي لصالح المشاريع الغربية. في المقابل، نجحت أطراف محور الجهاد والمقاومة في تطوير قدراتها العسكرية النوعية، وهو ما يعني فشل المنظومة الأمريكية في احتكار القوة والتسليح، بل وانهيار تفوقها التكنولوجي في بعض المجالات، وهو ما يجعلها الآن أكثر عرضة للخطر من أي وقت مضى، وفق منطق الصراع، فإن كل تقدم لطرف هو انتكاسة للطرف الآخر، وكل نجاح للمقاومة هو خسارة استراتيجية لأمريكا. أثبتت الوقائع أن رهانات الولاياتالمتحدة في المنطقة العربية قد فشلت، وأن أدواتها التقليدية لم تعد مجدية في فرض هيمنتها أو حماية مصالحها كما في السابق، فالمعادلات التي بنت عليها استراتيجيتها، من تفوق الكيان الإسرائيلي، إلى تفتيت الخصوم، واحتكار القوة، كلها تعرضت لانهيارات متتالية أمام تصاعد محور الجهاد والمقاومة. ولم يعد أمام واشنطن، بعد هذا التحول العميق الذي فرضته عملية طوفان الأقصى، سوى خيار واحد: القبول بالأمر الواقع الجديد في المنطقة، واقع لم تعد فيه القوة الأمريكية مطلقة، ولا الكلمة العليا لها، بل بات التوازن يميل تدريجياً نحو قوى إقليمية صاعدة ترفض الخضوع وتفرض معادلاتها من موقع الندية، لا التبعية.