على امتداد قرن من الزمن ظل الفكر الوهابي يشكل الأداة الأبرز في رسم ملامح الخريطة السياسية للجزيرة العربية، لا باعتباره تياراً إصلاحياً يسعى للنهوض بالأمة كما يزعم أنصاره، بل كغطاء فكري سهّل التدخلات الخارجية ومهّد لتفكيك النسيج الإسلامي من الداخل، فقد تأسس هذا الفكر على منطلق محاربة ما يسمى بالبدع، واتخذ من استهداف المذاهب والطوائف الإسلامية الأخرى ذريعة لتمزيق وحدة الأمة، دون أن يقدّم أي مشروع حضاري أو نهضوي، مكتفياً بترسيخ مبدأ الطاعة المطلقة للحاكم، الأمر الذي جعل منه النموذج الأمثل لضمان بقاء السلطة السياسية مهما تغيرت الظروف أو واجهت من تحديات. لكن الفكر وحده لم يكن ليكفي، إذ كان لا بد من قوة سياسية تتبناه وتطبّقه على الأرض وتُسخّره لخدمة أجندات القوى الكبرى، وهنا ظهر دور آل سعود الذين شكّلوا مع آل الشيخ تحالفاً متكاملاً رعته القوى الغربية، فالمؤسسة الدينية منحت الشرعية، فيما تولت المؤسسة السياسية تنفيذ الهيمنة وضبط الداخل، ومع انهيار الدولة العثمانية، ساعد الدعم البريطاني على تثبيت هذا التحالف، لينبثق كيان جديد يسيطر على الحرمين الشريفين وأكبر احتياطيات النفط، ويحول دون استثمار قدسية مكة والمدينة في أي مشروع مقاوم للغرب أو الكيان الصهيوني. منذ تلك اللحظة ارتبطت السياسة السعودية بشكل مباشر بالمصالح الغربية، وأصبح معيار الصداقة والعداء للرياض مرتبطاً برضا واشنطن أولاً، خلال الحرب الباردة تبنّت المملكة خطاباً دينياً متشدداً لمواجهة المد القومي العربي الذي وُصف بالكفر بذريعة تحالفه مع الشيوعية، فدفعت آلاف الشباب العرب إلى ساحات أفغانستان تحت راية الجهاد، وهو ما أفضى لاحقاً إلى بروز تنظيم القاعدة، وفي الوقت ذاته، لعبت السعودية دوراً أساسياً في مواجهة الثورة الإسلامية الإيرانية عبر دعم العراق، لتؤكد بذلك وظيفتها المرسومة كحارس للمصالح الغربية وضامن لأمن الكيان الصهيوني. ومع الاحتلال الأمريكي للعراق، انحرفت السياسة السعودية أكثر نحو تغذية الانقسامات الطائفية، إذ أُعيد إنتاج خطاب "السنة ضد الشيعة" كأداة لتمزيق القوى المقاومة وتفكيك أي مشروع مستقل يمكن أن يشكل خطراً على الهيمنة الغربية، وحين بدأت صورة التشدد الديني تفقد بريقها، لجأت الرياض إلى إعادة صياغة نفسها في ثوب جديد تحت شعار "الإسلام المنفتح" وبرامج الترفيه والانفتاح الثقافي، محاولةً تسويق نموذج مغاير يتماشى مع روح العصر، لكنه ظل في جوهره يؤدي ذات الدور الوظيفي: حماية المصالح الأمريكية والأمن الإسرائيلي، مع ضمان بقاء السيطرة الداخلية. تاريخ النظام السعودي يكشف أنه لم يعرف ثباتاً في الموقف أو انسجاماً في المنطلقات، بل عرف تقلبات متعددة تفرضها عليه مصالح الحليف الغربي، فبعد صعود التيارات القومية العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، طُلب من السعودية أن تكون رأس الحربة الرجعية في مواجهة مشاريع الوحدة والتحرر العربي، وقد نجحت في إجهاضها، ومع اشتداد الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، أسند إليها دور القيادة العقائدية المتشددة في مواجهة الفكر الشيوعي، وقد أدّت هذا الدور بجدارة، ثم في مواجهة إيران، طُلب منها أن تلبس عباءة القومية بدعم صدام حسين في حربه ضدها، فتحولت من دولة رجعية مناهضة للقومية إلى دولة تدّعي تبني خطاب قومي عربي، لكنها فشلت بعد غزو الكويت وانقلاب الموازين في المنطقة. إزاء تعاظم الدور الإيراني الذي تجاوز البعد القومي إلى البعد العقائدي، ارتدت السعودية مجدداً رداء المذهبية وقدّمت نفسها كحامية للمذهب السني في مواجهة المذهب الشيعي، لكنها لم تنجح في هذه المهمة أيضاً لأنها حصرت السنية في الإطار الوهابي الضيق، بينما استطاعت إيران أن تتجاوز الحواجز المذهبية وتبني تحالفات واسعة مع تيارات قومية ودينية مختلفة توحدها فكرة مقاومة الكيان الصهيوني والوجود الأمريكي. وحين تعزز هذا الفشل، لم تجد السعودية بداً من تقمّص دور "النظام المنفتح" الذي يتبنى خطاب الترفيه والانفتاح الأخلاقي، ليس استجابة لتحولات داخلية بقدر ما هو محاولة للتأثير على الداخل الإيراني عبر ضرب المثال بأن العرب – أصحاب الحرمين – تخلوا عن التشدد وأخذوا بنمط حياة غربي متحرر، في رسالة ضمنية إلى الشعوب المسلمة غير العربية بأنهم ليسوا بحاجة إلى أن يكونوا "أكثر تديناً من العرب أنفسهم". ما يتضح في كل هذه التحولات أن المملكة لا تحكمها ثوابت دينية أو قومية أو حتى مذهبية حقيقية، بل الثابت الوحيد هو وظيفتها المرسومة: ضمان بقاء الهيمنة الأمريكية في المنطقة وحماية أمن الكيان الصهيوني، وكل تغيير في خطابها أو سياساتها الداخلية والخارجية لا يعدو أن يكون تغييراً في الأدوات والوسائل، بينما يبقى الهدف واحداً، فحين يُطلب منها أن تواجه القومية تؤدي الدور، وحين يُطلب منها أن تقود التشدد تفعل، وحين يُطلب منها أن تنفتح وتتبنى سياسات الترفيه تُنفذ دون تردد. إسرائيل تدرك أن بقاء النظام السعودي يشكل أحد أهم عوامل استقرارها الاستراتيجي، ولذلك فهي تعمل بشكل مباشر وغير مباشر على ضمان استمراره، فمن خلال نفوذها العميق في مراكز القرار الأمريكية والأوروبية تقدم السعودية كحليف لا غنى عنه للغرب، يضمن استقرار أسواق النفط ويقف في وجه ما تصفه بالخطر الإيراني، وهو ما يجعل الغرب يتعامل مع النظام السعودي كضرورة استراتيجية لا يمكن المساس بها، وفي الوقت ذاته، توظف إسرائيل لوبياتها النافذة في واشنطن والعواصم الغربية للتغطية على الانتهاكات السعودية في مجال حقوق الإنسان، وتقديمها كقضايا ثانوية مقارنة بخطر إيران أو ما يسمى الإرهاب، وعلى المستوى الأمني والسياسي، ترى إسرائيل أن سقوط النظام السعودي سيعني احتمال بروز نظام عربي إسلامي مقاوم يمتلك الحرمين الشريفين، وهو ما يشكل تهديداً وجودياً مباشراً، لذلك فهي تعمل على تعزيز استمراره وتطوير علاقاته معها باعتباره البوابة الرئيسية لجر بقية الأنظمة العربية نحو التطبيع، ومن زاوية أشمل، ينظر الكيان الصهيوني إلى السعودية كجزء من منظومة وظيفية تضمن أمنه، فهي تضبط الخطاب الديني وتحيّد قدسية مكة والمدينة عن أي توظيف تعبوي ضد الغرب أو الكيان، ما يجعل استمرار السعودية واستمرار إسرائيل وجهين لعملة واحدة، يتكاملان في حماية بعضهما وضمان بقائهما في قلب المنطقة. ومع ذلك، يبقى واقع السعودية هشاً، إذ إن استمرارها واستقرارها مرهون بأدائها للدور المنوط بها في حماية المصالح الأمريكية والإسرائيلية، ومتى ما انتهى هذا الدور أو لم تعد تفي بمتطلبات الاستراتيجية الغربية، فإنها ستتحول تلقائياً إلى هدف رئيسي لكل من الكيان الصهيوني والغرب، الذين لن يترددوا في تصنيفها كخطر محتمل على مصالحهم، فالنظام السعودي ليس محاطاً بأي شبكة أمان حقيقية خارج وظيفته المرسومة، وما يبدو اليوم من انفتاح أو استقرار لا يعدو أن يكون مؤقتاً، مشروطاً بإبقاء المملكة في دائرة الطاعة وتنفيذ المهام الاستراتيجية التي تضمن الهيمنة الغربية على المنطقة. في النهاية، تكشف هذه المسيرة الطويلة أن المملكة السعودية ليست سوى أداة وظيفية، تتغير أدواتها ومظاهرها وفقاً لمتطلبات القوى الغربية، بينما يظل الهدف واحداً: حماية الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، كل التحولات الداخلية والخارجية، من الوهابية إلى الانفتاح، ومن الجهاد الأفغاني إلى مشاريع الترفيه، لم تكن سوى أقنعة لتأمين بقاء النظام في خدمة الاستراتيجية الغربية، وعليه، فإن السعودية ليست فاعلاً مستقلاً بقدر ما هي عنصر ضمن منظومة أكبر، حيث يظل أمنها واستقرارها مرتبطاً مباشرة بأمن الكيان الصهيوني وبقاء النفوذ الأمريكي، وما يُعد اليوم نجاحاً أو إصلاحاً أو انفتاحاً، قد يتحول غداً إلى ذريعة لتغيير قواعد اللعبة، إذا ما توقفت عن أداء الدور المنوط بها، لتصبح حينها هدفاً مباشراً للكيان الصهيوني والغرب معاً، وهو الثابت الذي يحكم كل تحركاتها وسياساتها في قلب المنطقة.