لم يكن يوم الأربعاء الماضي حدثًا عابرًا في صفحات الأخبار، أو سطرًا يذهب مع طيف النسيان؛ بل كان محاولةً جبانةً لقتل الحقيقة، وخنقًا ممنهجًا لصوتٍ حمل على مدى سنوات قضايا الوطن والمستضعفين.. حين استهدفت طائرات العدو الصهيوني مقر صحيفتي «26 سبتمبر» و«اليمن» ارتقى على إثر ذلك كوكبةٌ من زملائنا الأبرار وجرح آخرون ممن حملوا الكلمة واجبًا وكرامةً. هذه جريمة لا تُختصر بخراب جدران أو بآلات مهشمة؛ إنها جريمة مكتملة الأركان ضد الصحافة الحرة، ضد الكلمة الصادقة، وضد كل من حمل القلم والعدسة دفاعًا عن الشعب وقضاياه.. إنها وصمة عار في جبين عالمٍ يراقب أحيانًا بصمتٍ مطبقٍ ويحترق أحيانًا بمظاهر الشجب الفارغة. دماؤكم وقودٌ لا ينطفئ زملاؤنا الذين ارتقوا لم يستشهدوا في موقع عملٍ عادي؛ كانوا في جبهة الوعي جنودًا في ميدان الكلمة الذي لا يقلّ شرفًا عن ميادين القتال في المتارس.. كتبوا للتاريخ لا للمجاملات، صوروا الحقيقة لا للتمويه، ووضعوا وجوههم أمام آلةٍ لا تعرف رحمة.. دماؤهم الطاهرة ليست خسارة عادية؛ هي أمانةٌ في أعناقنا ونارٌ ستزداد اشتعالًا في صدور كل حرٍّ يحب وطنه وقضيته العادلة. لن نقف عند حدّ البكاء؛ سنحوّل الحزن إلى عهدٍ لا ينكسر: نضاعف فضح العدو، نكثف كشف جرائمه، ونجعل من صوت الشهداء منارةً لمعركة الوعي.. فكل صفحة ممزقة، وكل مكتب مهشّم، وكل جهاز تصويرٍ محترق، هي شهادةٌ على شرفٍ لا يُقاس وعلى التزامٍ يُكتب بالحبر والدم معًا.. سنستمر في التحقيق، والتوثيق، وفضح جرائم العدو إعلاميًّا وقانونيًّا حيثما تتيح السبل. رسالةٌ مدويةٌ للعالم: أين عدلكم المزعوم؟ في الوقت الذي تفيض فيه بعض المحافل الغربية خطبًا عن حرية الصحافة وحقوق الإنسان، نرى صمتًا مريبًا أو شجبًا جامدًا أمام مشهد قصف مقرات إعلامية وقتل صحفيين أثناء تأدية واجبهم.. أين أنتم أيها المدافعون عن القيم حين تقع الجريمة أمام أعينكم؟ أهذه هي حرية التعبير التي تتفاخرون بها أم أنها انتقائيةٌ لا تعرف سوى معايير مزدوجة؟ نرفع اليوم ألف علامةٍ استفهام أمام هذا الصمت، ونتطلع إلى موقفٍ إنسانيٍ حقيقيٍ وعادلٍ، لا بياناتٍ متقطعةٍ وعباراتٍ جوفاء.. فالقضية ليست مسألة تقاريرٍ إخباريةٍ فحسب، بل إنكارٌ لحقٍّ إنسانيٍ أساسي: الحق في أن يحيا الصحفي ويعمل دون خوفٍ من القتل. عهدٌ لن نخونه: السير على درب الشهداء إلى رفاقنا الذين استشهدوا نقول: دماؤكم أمانةٌ في أعناقنا.. سنحملها كلواءٍ، ولن نتخلَّ عن مسؤوليتنا لرسالتكم؛ ستظل صوركم وكلماتكم تملأ جدران الذاكرة، وستبقى أصواتكم تُعيد ترتيب الوجدان الوطني. لن نتراجع، ولن نساوم، ولن ننسى. سنواصل الوقوف إلى جانب غزة وكل المستضعفين؛ سندافع عن قضيتهم بالكلمة، بالتحقيق، بالوثائق، وبكل الوسائل المشروعة التي تحفظ كرامة الإنسان وحقّه في المعرفة.. هذه الجريمة لن تثنينا عن درب الحق، بل ستمنحنا زادًا من العزيمة والصمود. إلى الجرحى: عودوا لنا أقوى ندعو الله أن يمنّ على جرحانا بالشفاء العاجل، وأن يعيدهم إلى ميادين العمل سالمين ليواصلوا حمل لواء الحقيقة الذي لا يموت.. إن مواقعكم لم تكن مجرد مكاتب، بل حصونٌ للكلمة، وعودتكم ستضاعف من قوة المعركة الإعلامية والأخلاقية. لعنة التاريخ على قاتلي الكلمة نطالب بالعدالة المطلقة: محاسبة القتلة وملاحقة الجلادين سياسيًّا وإعلاميًّا وأخلاقيًّا، وفضح من يقف خلفهم أو يدعمهم.. وقد تتأخر العدالة الدولية أو تميل إلى المساومة، لكن التاريخ لا ينسى، وذاكرة الشعوب تحفظ أسماء من ارتكبوا المجازر.. سيأتي اليوم الذي تنقلب فيه موازين القوة، وتُقاس أفعال الطغاة بمقاييس الحقيقة. من ركام الحق تنبت الحريات على ركام مكاتبنا ومقالاتنا الممزقة ستنبت أجيالٌ من صحفيين يرفضون الخنوع. دماؤكم ليست نهايةً بل بداية، وليست خسارةً بل وعد بأن نصرخَ بالحق حتى لو ارتفع صوتنا على أعناق القنابل.. سنبقي الشعلة مضيئةً، وسنمضي في طريق الكلمة المقاومة نحو عالمٍ يعترف بأن الصحافة ليست جريمة، وأن دفاعنا عن المظلومين لا يمكن أن يُسكت بالقنابل. اللهم ارحم شهداءنا، واشفِ جرحانا، ونصب عزائمنا على الدوام في سبيل الحق. إلى أن يتحقق النصر أو يُكتب التاريخ، تبقى كلمتنا سلاحًا لا يصدأ، وذاكرتنا حيّةً لا تموت.