يُشكِّلُ التعليم، بما لا يدع مجالاً للشك، حجر الزاوية في بناء الأمم ونهضتها، خاصة لأمة كان أول أمر إلهي لها هو "اقرأ". إنها معادلة وجودية بسيطة صاغها الفيلسوف فيكتور هوغو ببراعة: "الأمَّةُ التي تُنفِقُ أقلَّ على التعليم، ستُضطرُّ أن تُنفِقَ أكثر على السجون." هذه المقولة ليست مجرد حكمة أدبية، بل هي قانون اجتماعي واقتصادي ثابت. فالاستثمار في العقل البشري هو الثروة الحقيقية التي لا تنضب، وليس ما يُستخرج من باطن الأرض. إن الأمم الصاعدة، مثل اليابان والصين، لم تعتمد على وفرة الموارد الطبيعية، بل اعتمدت على الإرادة الصلبة في جعل التعليم الأولوية الوطنية العليا. لقد أدركت هذه الدول أن المعلم هو أغلى ثروة، وأن الاستثمار في تطويره وتقوية المنظومة التعليمية هو استثمار يُجنى أضعاف ثمنه استقراراً وتقدماً. في المقابل، عندما تتدهور أولويات الدولة وتهمل التعليم، فإنها تدفع ثمناً باهظاً على المدى الطويل. إن الضعف التعليمي يغذي الجهل واليأس، ما يؤدي حتماً إلى ارتفاع معدلات الجريمة وتفاقم المشكلات الاجتماعية. هنا، يتحول الإنفاق من بناء المدارس وتجهيز المختبرات إلى تشييد المزيد من الأسوار والسجون. تكلفة الجريمة والاحتجاز: إنفاق علاجي مُكلف عندما يغيب التعليم، يرتفع الجهل والبطالة واليأس، لتجد فئات واسعة ضالتها في الجريمة. يتحول إنفاق الدولة من بناء المعامل والمدارس إلى بناء السجون وتوظيف رجال الأمن. هذه التكاليف تُصنَّف ك "إنفاق تشغيلي علاجي" وهي: * تكلفة البنية التحتية للسجون: وهي تكلفة عالية جدًا مقارنة ببناء المدارس. * تكلفة التشغيل اليومي للسجون: رواتب الحراس، الغذاء، الرعاية الصحية للمُدانين، وهي تكاليف مستمرة ومُتصاعدة. * تكلفة ضياع القوى العاملة: كل سجين يُمثل يدًا عاملة مُعطَّلة، أي خسارة اقتصادية مُضاعفة: تكلفة إعالته بالإضافة إلى خسارة إنتاجيته. التكلفة الخفية: خسارة الفرصة الضائعة الأخطر من تكلفة السجون هو تكلفة الفرصة الضائعة. فكل دينار يُنفق على قمع المشكلات الاجتماعية الناتجة عن الجهل هو دينار كان يمكن أن يُستثمر في مشروع تعليمي يُنتج عالمًا أو مهندسًا أو رائد أعمال. هذا التحول في الأولويات يخلق حالة من "الركود الفكري" على المدى الطويل، حيث يُصبح النظام التعليمي عاجزًا عن تزويد سوق العمل بالمهارات المطلوبة. المعلم أولاً: نقطة الارتكاز الاستراتيجي إن أساس أي إصلاح اقتصادي عميق يجب أن يبدأ بتحسين وضع المُعلّم. المُعلّم ليس مجرد مُلقن للمعلومات، بل هو صانع رأس المال البشري. إن إهمال راتب المُعلّم وبيئته التدريسية هو قرار اقتصادي خاطئ بامتياز، لأنه يُرسل رسالة سلبية عن قيمة العلم نفسه، مما يُحوّل مهنة التعليم إلى "طاردة للكفاءات" ويُضعف جودة المخرجات. لذلك، فإن الاستثمار الحقيقي هو في: * رفع كفاءة المعلمين. * تحسين الأجور والحوافز لتشجيع أفضل العقول على الانخراط في التعليم. * تطوير المناهج لتلبية متطلبات الثورة الصناعية الرابعة (مهارات التفكير النقدي، البرمجة، إلخ). الطريق إلى الاستقرار الحقيقي إن الأمن والازدهار ليسا وليدي الإنفاق على القمع أو الإنفاق على الموارد الخام، بل هما نتاج "منطق الأولويات السليمة". الأمم الناجحة هي تلك التي تُبقي على ميزانية التعليم أعلى من ميزانية السجون، لأنها تدرك أن الاستقرار الحقيقي والتقدم الدائم يُصنعان في قاعات الدرس والمختبرات، وليس خلف قضبان الزنازين، والمصحات العقلية والنفسية. إن الاختيار ليس بين التعليم والجريمة، بل هو بين الاستثمار الرشيد المُبكر الذي يُغلق أبواب السجون تدريجيًا، أو الإنفاق المُكلف المُتأخر الذي يُحوّل المدارس إلى مجرد أبنية خاوية والسجون إلى مُتخَمات دائمة. يجب أن يكون "المُعَلِّمُ أولاً" هو أساس التنمية. باختصار، المسألة هي اختيار استراتيجي: إما أن تختار الأمة الاستثمار الوقائي الحكيم في منارة العلم والمعرفة، فتقلّ الجريمة وتُغلق أبواب السجون، والمصحات العقلية والنفسية، وإما أن تختار الإنفاق العلاجي القاسي والمكلف على إصلاح ما أفسده الجهل والإهمال، لتصبح السجون "مدرسة" للجريمة بدلاً من أن تكون المدارس مصانع للعقول والقادة. الاستقرار الحقيقي يُصنع في قاعات الدرس، لا خلف قضبان الزنازين.