في التاريخ الحديث، لم تُسجل المعارك العسكرية فصلاً أكثر قسوة أو أكثر إلهاماً من الفصل الذي كُتب على أرض غزة الصامدة. لمدة تجاوزت السنتين من العدوان المتواصل، وفي خضم حصار خانق وجرائم إبادة جماعية وتجويع ممنهج، سقط ما يزيد عن 66 ألف شهيد غزاوي، وتعرّض القطاع لسيل من المواد المتفجرة يقدر بأنه يعادل قوة سبع قنابل ذرية كتلك التي أُلقيت على هيروشيما وناجازاكي، والتي كانت كافية لاستسلام إمبراطورية كاليابان. ورغم تضاعف خسائر غزة في الأرواح عما فقده اليابانيون، ورغم المجازر المُوثقة، وحرب الإبادة الواضحة، والتفكك الهيكلي الذي طال حتى الصف الثالث من القيادات الفاعلة، لم تنهار المقاومة. بل أظهرت صموداً ليس له مثيل. هذا الصمود، على الرغم من خذلان القريب والبعيد، يُعدّ شهادة على إرادة شعب رفض أن يُهزم، مسطراً بذلك أسطورة غير مسبوقة في التاريخ الحديث. من عجائب المشهد العربي المعاصر ما لا يكاد يستوعبه عقل، وهو التمجيد والاحتفاء بيوم السادس من أكتوبر 1973م، وفي الوقت نفسه، تجريم ورفض ما حدث في يوم السابع من أكتوبر 2023م. يفصل بين الحدثين خمسون عامًا ويوماً واحداً، لكن ما يجمعهما يتجاوز بكثير ما يفرقهما، فلماذا هذا الانفصام العجيب في الذاكرة والوجدان؟ دعونا نُجري مقارنة منطقية بسيطة: تشابه الدوافع والمشروعية * دافع السادس من أكتوبر 1973: كان الهدف المعلن للجيشين المصري والسوري هو تحرير الأراضي العربية المحتلة - سيناء والجولان - التي سقطت في عدوان عام 1967. كان هجوماً مفاجئاً ومباغتاً يهدف إلى استرداد الحق المسلوب. هذه خطوة تُعد مشروعة بالكامل في القانون الدولي تحت مبدأ مقاومة الاحتلال. * دافع السابع من أكتوبر 2023م: كان الدافع للمقاومة الفلسطينية هو ذاته: محاولة لتحرير الأراضي العربية المحتلة في فلسطين، سواء تلك التي احتُلت عام 1948 أو عام 1967، والرد على سنوات من الحصار والانتهاكات المتصاعدة. وهو، أيضاً، هجوم مفاجئ ومباغت، يستند إلى ذات المشروعية التي تُبيح للشعوب الواقعة تحت الاحتلال مقاومة محتليها. الخلاصة: الدوافع والأسباب متطابقة تماماً. هي حرب تحرير واستعادة للحقوق، والمشروعية مستمدة من نصوص القانون الدولي والمواثيق الإنسانية التي تكفل حق مقاومة الاحتلال. حتى ميزان القوة في كلتا الحالتين كان يميل - ولا يزال - بشكل ساحق لصالح العدو. ازدواجية المعايير والتبعية المُهينة هنا تكمن الإشكالية الكبرى التي تستوجب التساؤل: لماذا يُرفع علم السادس من أكتوبر ويُنكس علم السابع منه؟ السبب الوحيد المقنع لتفسير هذا التناقض الصارخ لا يمكن أن يكون عسكرياً أو قانونياً أو أخلاقياً، بل هو سياسي محض، ويكشف عن حالة متقدمة من التبعية وفقدان الإرادة. الاحتفاء بذكرى 1973م تحول بمرور الزمن إلى رمز يخص دولاً "صاحبة سيادة" ويُنظر إليه في سياق "الحرب النظامية" التي تلتها معاهدات سلام. بينما يُنظر إلى عملية 2023م كعمل مقاومة تقودها "قوى غير نظامية"، مما يضعها في زاوية التجريد والإدانة لدى الأنظمة التي باتت تخشى أي عمل يهدد استقرار المنطقة أو يُغضب القوى الغربية التي تعتبر نفسها الضامن لهذا "الاستقرار". النتيجة المؤلمة: عندما يجد المواطن العربي أن حكومته تبارك هجوماً حدث قبل نصف قرن وتستنكر هجوماً حدث بالأمس القريب، رغم تطابق الدوافع، فإنه لا يجد تفسيراً إلا أن هناك قوى خارجية تفكر بالنيابة عن العرب، وترسم سياساتهم، وتحدد مساراتهم، بل وتنتقي لهم ما يجب أن يفرحوا به وما يجب أن يدينوه. هذا الانفصام ليس مجرد خطأ في التقدير؛ إنه عار في الوعي، ودليل على أن القرار السيادي قد تآكل إلى درجة باتت معها الأمة تتخلى عن مقاومتها المشروعة خوفاً من "سيد" أو طمعاً في "سلام" هش. إن الأمة التي تُضحِك من جهلها الأمم هي تلك التي تتبنى خطاباً يُجرِّم نضالها ويُقدِّس تنازلها. خاتمة خير مثال على هذا الانفصام هو أن تتبنى أمة مقولة: "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة" كشعار عسكري وتاريخي في معركة التحرير (1973)، ثم تُدين في الوقت نفسه أي عمل مقاومة يستند إلى ذات المبدأ في معركة التحرير المستمرة (2023). إن الأمة التي تُعلن استقلالها وهي ترتدي قيداً من ذهب، هي أمة أضاعت بوصلتها التاريخية. إن المقاومة لا تحتاج إلى إذن، والتحرير لا ينتظر شهادة حسن سلوك من المحتل أو من ارتضى بالخضوع له.