تبدو التطورات الأخيرة في الملف اليمني وكأنها تكشف تحوّلاً نوعياً في طبيعة العدوان. فبعد أن فشلت واشنطن وتل أبيب والرياض في تحقيق أهدافها العسكرية المباشرة على مدى سنوات من القصف والحصار، بدأت تتجه إلى إستراتيجية مختلفة وأكثر خبثاً، تستهدف الداخل اليمني ذاته لا عبر الطائرات والصواريخ هذه المرة، بل عبر العقول والولاءات. التحول الجديد، كما يراه المراقبون، يتمثل في "عدوان ناعم" يلبس ثوب العمل الاستخباري المنظّم، ويقوم على تفكيك البنية الداخلية للمجتمع من خلال زرع شبكات جواسيس وخلايا متعاونة تعمل في صمت تحت غطاء مدني، وتتلقى أوامرها من غرف عمليات مشتركة في تل أبيب وواشنطنوالرياض. الفكرة ليست جديدة في جوهرها، لكنها اليوم جزء من عقيدة الحرب الجديدة التي تتبنّاها، بعدما أيقنت هذه الثلاثية العدوانية أن المواجهة المفتوحة مع اليمن لم تعد ممكنة بعد الانكشاف الكبير في قدرات تحالف العدوان العسكرية أمام العمليات الدقيقة التي تنفذها القوات المسلحة اليمنية في البحر الأحمر. هذه الإستراتيجية الجديدة لا تبحث عن "نصر سريع" كما كان الهدف المعلن في بدايات الحرب، بل تراهن على المدى الطويل وهي تحاول إعادة إنتاج الفوضى من الداخل، وبناء بيئة من الشكّ والانقسام، بحيث يتنازع اليمنيون أنفسهم حول من يقف مع الوطن ومن يخونه. إنها طريقة في الحرب تستهدف الوعي قبل الأرض، والثقة قبل الجغرافيا، والمجتمع قبل الدولة. وفق المعطيات التي كشفتها الأجهزة الأمنية اليمنية، تم تدريب شبكات التجسس المكتشفة على الأراضي السعودية بإشراف ضباط أميركيين وإسرائيليين، وتزويدها بأجهزة رصد واتصال حديثة. مهمتها لم تكن مراقبة عادية، بل تزويد غرفة العمليات بالمعلومات الميدانية والإحداثيات، لتُستخدم في تحديد الأهداف العسكرية والمدنية داخل اليمن. وبينما تتحدث واشنطن عن "خفض التصعيد"، وتُظهر الرياض ميلاً إلى "الحل السياسي"، فإن الوقائع على الأرض تقول شيئاً آخر: العدوان لم يتوقف، وانما غيّر جلده. انتقل من الحرب المكشوفة إلى الحرب المركّبة، من السماء إلى الأرض، من القصف إلى الاختراق. تل أبيب التي ترى في اليمن خصماً إستراتيجياً بعد دعمه لغزة، والرياض التي فشلت في فرض إرادتها بالقوة، وواشنطن التي تبحث عن مخرج مشرّف من المستنقع اليمني — كلها اليوم تحاول أن تفكك صمود اليمنيين من الداخل عبر هذه الأدوات. لكن صنعاء، كما تشير الوقائع، تبدو مدركة لطبيعة هذا التحول. وبما أن الشبكة التجسسية التي تم الإطاحة بها كانت تعمل بإشراف غرفة عمليات مشتركة مقرها في الرياض، فإن ذلك يؤكد أن النظام السعودي لا يزال يمارس أدوارًا عدوانية ضد اليمن، وإنْ غيَّر أدواته من القصف المباشر إلى العمل الاستخباري. وعليه، فإن على صنعاء أن تعيد تقييم طبيعة هذا الدور السعودي في المرحلة الراهنة، والتعامل معه باعتباره امتدادًا للعدوان بأشكاله الجديدة.