تتجلى حقائق السيادة والوجود الوطني احيانا خارج قوالب القانون الدولي المالوفة لتصنع مسارات تتحدى الاعراف وتفضح ازدواجية المعايير. فالمقارنة الدقيقة بين مسيرتي جمهورية ارض الصومال (صوماليلاند) و الجنوب العربي لا تسفر عن مجرد تحليل تاريخي بل تكشف عن جوهر الارادة الوطنية في مقابل التردد السياسي وعن قوة الواقع المنجز امام عوائق الاعتراف المنتظر. ففي تاريخ لا ينسى اعلنت صوماليلاند استقلالها عن الاستعمار البريطاني في 26 يونيو 1960 ولم يمر سوى خمسة ايام على هذا الاستقلال حتى آثرت الوحدة الطوعية مع الصومال الجنوبية في 1 يوليو 1960 لتشكلا معا الجمهورية الصومالية وعاصمتها مقديشو. والملفت للنظر ان صوماليلاند لم توقع اي اتفاق للوحدة مع سلطة مقديشو حيث اعتبرت نفسها جزءا طبيعيا من الصومال الكبير كما لم تشكل دولة او حكومة او نظاما خاصا بها خلال تلك الايام الخمسة القصيرة قبل الوحدة. ولكن سرعان ما تاكلت تلك الوحدة الطوعية على مدار العقود اللاحقة. ففي اواخر الثمانينات وعلى خلفية التهميش والاقصاء والفساد الذي عانت منه برزت مطالبات الانفصال التي قوبلت بهجوم عسكري بري وجوي كاسح من قبل الحكومة الفيدرالية الصومالية استهدف هرجيسا ومدنا اخرى. ومع انهيار نظام سياد بري وبداية الحرب الاهلية الصومالية في مطلع التسعينات اعلنت جمهورية ارض الصومال انفصالها الكامل عن الصومال الام معلنة قيام دولتها المستقلة.وعاصمتها هرجيسا. ومنذ ذلك الحين تمارس صوماليلاند حياتها باعتبارها دولة مستقلة وذات سيادة بعيدا عن اي وصاية اخري وتديرها بنظام ديمقراطي متكامل يضم رئيسا منتخبا ومجلس نواب منتخب وسلطة محلية منتخبة وثلاث سلطات منفصلة وجيشا واجهزة امنية مستقلة. ورغم غياب اي اعتراف دولي رسمي باستقلالها فان وجودها كأمر واقع على الارض لا يمكن انكاره. وقد افتتحت مكاتب تجارية في دول العالم تقوم بدور تجاري ودبلوماسي وقنصلي تمثيلي لرعاية جالياتها ولديها مكتب مماثل في عدن بمديرية خورمكسر على نحو يؤكد بان الاعتراف الدولي لا يمكن ان يشكل عائقا امام قيام اي دولة في العالم وبنائها ما منحها احتراما دوليا واقليميا تجاوز حاجز الاعتراف الرسمي.
وعلى النقيض من تجربة صوماليلاند فان الجنوب العربي يمتلك اوراقا تاريخية وقانونية اشد قوة ووضوحا مما تمتلكه صوماليالاند لاعلان استقلاله الكامل. حيث كان الجنوب العربي دولة مستقلة ومعترفا بها دوليا لثلاثة عقود متتالية بعد استقلاله عن الاستعمار البريطاني قبل توقيع اتفاق الوحدة مع نظام صنعاء عام 1990م. وهذا الوضع التاريخي يشكل امتيازا قانونيا ودبلوماسيا وسياسيا صريحا ووجيها لعدالة القضية الجنوبية عند مقارنتها بقضية صوماليلاند التي لا تمتلك اي حجج قانونية او سياسية للقيام بالانفصال سوى حقها في تقرير المصير ورغبتها في التخلص من التهميش. ويضاف الى ذلك تعرض الجنوب العربي للغزو العسكري واقصاء ممثليه من السلطة بعد اتفاق الوحدة مما يمنح قضيته بعدا اضافيا يرتكز على الارادة الشعبية والتضحيات وقوافل الشهداء التي قدمها في سبيل الاستقلال.
وتكمن المفارقة العجيبة والمولمة هنا في ان ارض الصومال التي استغلت الحرب الاهلية وضعف نظام مقديشو في مطلع التسعينات والتي لا تمتلك تاريخا كدولة معترف بها قبل الوحدة اعلنت استقلالها التام وتعيش على واقعه. بينما الجنوب العربي الذي كان دولة معترفا بها سلفا ويملك كل الحجج القانونية والسياسية والارادة الشعبية والامكانيات العسكرية والمقومات والوطنية والسياسية للعودة الى وضعه السابق لا زال تحت الوصاية اليمنية رغم كل مقومات وفرص استقلاله. ومن هنا يبرز التساول الجوهري حول دور المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يمثل الجنوب وشعبه وقضيته. فالتاريخ والواقع في صوماليالاند يقدمان درسا بليغا وحاسما بان الاعتراف الدولي لا يسبق اعلان استقلال الدول بل ياتي لاحقا. ولا يمكن لشعب ان ينال اعترافا بدولته قبل ان يعلن استقلالها وينجز قيامها كأمر واقع على الارض حتى لو لم تكن معترفا بها سابقا فما بالكم بدولة معترف بها تاريخيا. هذا الموقف يشير الى ان الخلل يكمن في ممثلي القضية الجنوبية وليس في القضية ذاتها وان الضعف في حامليها وليس في الفرص المتاحة للانجاز. اما المجتمع الدولي الذي يتجاهل تلك الحجج والمقومات على نحو مقصود ومتعمد فيتحمل الجزء المتبقي من المسؤولية مؤكدا على ان مصالح القوى الكبرى هي الميزان الذي يرجح كفة الواقع المتحدي على كفة القانون المنصف. فاللحظة الراهنة تتطلب قرارا سياسيا مزلزلا من طرف المجلس الانتقالي يحول الامتياز القانوني للجنوب الى واقع على الارض على غرار ما فعلت ارض الصومال دون امتيازاته.