(في المشهد اليمني ليس بمقدور أي طرف استئصال الآخر أو القضاء عليه .. فالمواقف و التحالفات تتغير و تتباين من وقت لآخر و لن يبقى سوى الوطن و تضحيات أبنائه و التي يتوجب على كافة الأطراف تغليبها و الانحياز إليها والانتصار لها).. أنها هستيريا القوة و جنون السلطة و الرغبة الجامحة في الحكم و السيطرة و الاستحواذ..؟؟!! أنهار غزيرة من دماء اليمنيين سفكت خلال الأشهر و السنوات القليلة الماضية في مارثون الوجع اليومي اليمني الذي يخوضه المتصارعون و هم يلهثون و يتسابقون فوق أشلاء الغلابى و البسطاء من اجل الوصول إلى حقائب السلطة و حقائب المال.. المتصارعون على السلطة و الثروة في هذه البلاد لا يبرعون في شيء سوى القتل و الدمار و ابتكار الحجج و المبررات لاستمرار نهج الموت و ثقافة القتل التي يمارسونها و يروجون لها و يغلفونها بغلاف الوطنية و المشروعية لاستقطاب المزيد من الغلابى و المعدمين و الزج بهم في خنادق الموت و جعل منهم وقوداً و مؤن حربية و زاد يتزود به في طريقهم نحو السلطة و الحكم و التشبث به و هو الطريق الأكثر فتكاً بالبلد و الناس .. و هو الطريق المرعب الطريق المبكي طريق العنف و القوة الذي اثثه المتصارعون بسجادة من دم و نار و دمار.. طريق كان بالإمكان تجنبه إذا ما صدقت نوايا الأطراف من خلال تقديم تنازلات و تخليهم عن نهج القوة و تغليب مصلحة الوطن على أطماعهم و مصالحهم الشخصية أو الفئوية أو الحزبية.. إن استماتة كل طرف في مطالبه و انتهاجه لسياسة كسر العظم و استئصال الطرف الآخر عن طريق الحسم على الأرض .. رغم توافقهم على شعارات و غايات هذا الصراع العبثي .. فكل طرف مثلا يدير معاركه ضد الطرف الآخرى و يغلفها بغايات و مصطلحات ينشدها معظم اليمنيون وكافة الغلابى و المعدمين ممن يتم الزج بهم في الحروب و الصراعات أو ممن يتم استقطابهم من قبل الأطراف و كسبهم كمناصرين لهذا الطرف أو ذاك و من هذه الغايات و المصطلحات التي يتخندق خلفها الأطراف مثل "امن الدولة و سيادتها و الحرية و الكرامة و المساواة و التحرر و عدم الخضوع والشرعية..وووو" فمهما تحققت للأطراف من انتصارات أو إنحسارات هنا أو هناك .. فلا منتصر فيهم و لا متضرر سوى الوطن الذي سينهكه الحقد و الدمار و الانشقاق و التشرذم المجتمعي و الوطني الذي تخلفه هذه الحروب العبثية. وهنا يمكننا القول انه لا بديل لدى اليمنيين سوى القبول ببعضهم البعض كمواطنين متساون في الحقوق و الوجبات يخضعون جميعاً لحكم الدستور و القانون و يعملون معا على تقوية مداميك و دعائم الدولة و مؤسساتها ويجعلون منها وسيلة للحصول على كافة حقوقهم و أداة تكفل لهم التداول السلمي للسلطة. ولنا فيما حدث في الجزائر و المغرب و جنوب أفريقيا عبره و عظة لما يحدث اليوم في اليمن من صراعات و حروب و تحالفات فهي دليل قاطع على أن الحروب لا تكسر الخصم أو تقضي عليه بل أحيانا قد تقويه .. مثلا حرب صيف 94م لم تستطع القضاء على هوية أبناء الجنوب و هوية دولتهم بل جعلتهم أكثر تشبثا بها و جعلت شريحة واسعة من الناس ومن الأطراف الدولية تتعاطف معهم و تناصرهم و تقف إلى جانبهم في مظلمتهم و كذلك حروب صعده الست التي أدت إلى النتيجة ذات و كذلك ثورة 2011م. الأطراف و حلفائهم و مبررات حروبهم جميعهم زائلون و يبقى الوطن وحده هو الوعاء النقي و البيت الدافئ الذي يجب على اليمنيون أن يتفننوا في ترميمه و ترسيخ مداميكه ليضم كافة أبناء اليمن. و هذا ما سيدركه الأطراف و لو بعد سنوات فما تعتبره الأطراف واجب و مقدس اليوم سيكون نظرهم جريمة وحماقة و عمل مشين غدا. فمثلا على سبيل تغير الآراء و التحالفات و مواقف الأطراف نجد في حرب 94م، كان الإصلاح و هادي و صالح و محسن و آل الأحمر و شريحة كبيرة من أبناء الجنوب طرف في تلك الحرب .. بينما الاشتراكي و جيش الجنوب و مكونات و أحزاب أخرى متعاطفين معهم كطرف آخر. و كذلك مواقف الكثير من الدول العربية و الأجنبية التي تباينت حينها في مواقفها و اصطفافها لهذا الطرف أو ذاك حسب مصالحها و غاياتها. و في حروب صعده الست ظل صالح ومعه الإصلاح و آل الأحمر هم الخصم الألد للحوثيين. بعكس الاشتراكي و قوى الحراك وبقية الأحزاب اليسارية التي كانت يومها تتعاطف مع الحوثيين جراء حرب الإبادة التي يتعرضون لها من قبل النظام الحاكم و الأطراف المتحالفة معهم. حتى المواقف الدولية والإقليمية فقد تباينت و تعارضت اليوم عما كانت عليه في الماضي فمثلا دولة قطر كانت إلى ما قبل 2011م هي الأقرب للحوثيين، و أثناء احتجاجات 2011م انضم الحوثي والإصلاح و محسن وال الأحمر و الاشتراكي و بقية أحزاب المشترك للثورة الشبابية ضد نظام صالح و قد ظل الحوثي يؤازر الحراك الجنوبي في معظم قضاياه و مطالبه إلى وقت قريب. و في صراع اليوم نجد أن معظم الأطراف قد تباينت في مواقفها و تحالفاتها و في خصوماتها على ما كانت عليه سابقاً. و خلاصة القول هو أن القوة لن تحل مشاكل اليمنيين و لن تمكن أي طرف من استئصال خصمه و القضاء عليه. فالطرف الأكثر حصافة و وطنيه هو من يجنح إلى السلم و يقدم التنازلات من اجل مصلحة اليمن و انتصارا للتضحيات التي سقط من اجلها الشهداء. قال ذات يوم كبير المفاوضين في حزب المؤتمر الإفريقي مع حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إن السود في المراحل الأخيرة من الصراع كان لديهم نزعة انتقامية ضد البيض و ضد رموز حكومة الفصل العنصري خلال فترة الحوار الوطني. و أثناء المفاوضات التي كانت تجري بين الطرفين حيث كانت المواجهات تنشب بين الطرفين من فترة إلى أخرى، و كان الزعيم الإفريقي مانديلا يطل على أنصار حزبه عبر شاشة التلفاز ليحثهم على التسامح و الاصطفاف مع أبناء وطنهم من البيض لبناء جنوب إفريقيا و بث و ترسيخ مبدأ المساواة و التسامح. و يصف كبير المفاوضين حكمة الزعيم الإفريقي مانيلا و دوره النبيل في إيقاف الصراع و نزيف الدم في بلده في ذلك الحين حيث يقول: "لا زلت أتذكر تلك اللحظات التي جمعتني بمانديلا في أخر لقاء من مفاوضاتنا مع فريق حكومة الفصل العنصري و قبل أن أودعه قال لي يومها: "إياكم أن تجعلوا من تضحيات الضحايا وسيلة للحصول على أي مكاسب سياسية .. فأنتم بذلك تهينونهم و تستنقصون من تضحياتهم العظيمة التي ضحوا من اجلها .. انتصروا لجنوب أفريقيا و للمبادئ و الغايات السامية التي سقط من اجلها الضحايا..". و كذلك ما حدث في الجزائر في بداية التسعينات بعد الفراغ الدستوري الذي خلفته استقالة بن جديد و إلغاءه للانتخابات التشريعية و ما عاشته الجزائر من أعمال عنف بين الجيش والجبهة الاسلامية و التي على إثرها تم استدعاء رجل وطني بحجم بو ضياف في بداية يناير1992م ليتولى رئاسة المجلس الأعلى للدولة بعد 28عام من الإبعاد القسري و الذي صرح حينها و بمجرد عودته إلى الجزائر قائلا: "جئتكم اليوم لإنقاذكم و إنقاذ الجزائر و أستعد بكل ما أوتيت من قوة و صلاحية أن ألغي الفساد و أحارب الرشوة و المحسوبية و أهلها و أحقق العدالة الاجتماعية من خلال مساعدتكم و مساندتكم التي هي سرّ وجودي بينكم اليوم و غايتي التي تمنيّتها دائما".. ليتم بعدها تصفية بو ضياف في دار الثقافة في مدينة عنابة من قبل ملازم في القوات الخاصة الجزائرية، أي بعد ستة أشهر من عودته استطاع خلالها أن يقطع بالبلد شوطاً كبيراً و ان يعيد لمؤسسات الدولة دورها المؤثر والكبير.. و لواقع اليمني اليوم شبيه أيضاً بما عاشته المغرب خلال الحقبة اللاحقة للمسيرة الخضراء في عهد الملك الحسن الثاني عام 75م والتي تكونت من "350" ألف من المدنيين و العسكريين قاموا باجتياح الصحراء الغربية. و قد لوَّحَ المتظاهرون يومها بالأعلام المغربية و لافتات تدعو إلى "عودة الصحراء المغربية" و ما خلفته تلك المسيرة من انتهاكات و اختفاءات قسرية عززت الانقسام الوطني جراء مطالبة مناطق جبال الرف الشمالية بالانفصال عن المغرب. و على الرغم من ذلك كله فقد استطاعت هيئة الإنصاف و المصالحة التي انشأها الملك محمد السادس بناء على توصيه من المجلس الأعلى لحقوق الإنسان حتى تمكنت هيئة الإنصاف و المصالحة من معالجة تلك الإختلالات التي أحدثت شرخ غائر في النسيج الوطني المغربي. و تمكنت من جبر الضرر و تعويض الكثير من الضحايا و أغلقت الكثير من ملفات و مآسي تلك الحقبة. كذلك هو الحال بالنسبة لليمن حيث بالإمكان معالجة كل هذا الشرخ الغائر الذي أصاب النسيج الوطني و الاجتماعي إذا ما استشعرت الأطراف المتصارعة اليوم مسئوليتها و تخلت عن نهج القوة و العنف و شرعت في استكمال العملية التصالحية من خلال البدء بخطوات جدية في النهج السلمي و بناء الدولة .. فليس بمقدور أي طرف استئصال الطرف الآخر أو القضاء عليه .. فالمواقف و التحالفات تتغير و تتباين من وقت لأخر و لن يبقى سوى الوطن و تضحيات أبنائه و التي يتوجب على كافة الأطراف اليوم تغليبها و الانحياز إليها و الانتصار لها.