يبدو الحاكم اليمني- شخصاً وحزباً- امام مفترق طرق حقيقي، لا سيما عقب ان حسم اللقاء المشترك امره لاجئاً الى ضغط الشارع واسناد الجماهير. بالنسبة للحكم الشخص والحزب، لا مناص من الاختيار بين طريقين متضارعين في الوعورة، متضادين في النتيجة والمال.. فاما المضي قدماً في خيار التفرد بالعملية السياسية واجراء الانتخابات النيابية في موعدها المحدد بأبريل القادم، واما التراجع عن الخطوات الانفرادية وامضاء رغبة الداخل والخارج في تأجيل الاستحقاق الانتخابي لمدة عام كامل بموجب توافق ثنائي مع احزاب اللقاء المشترك.
ان كانت نتيجة الخيار الثاني تعني التهدئة والتقاط الانفاس وتأجيل سيناريو التصادم اللائح في الأفق، فان النقيض بالضرورة سيشكل نتيجة حتمية للخيار الاول، اذ سيتعين على الحاكم- شخصاً وحزباً- الاستعداد لمواجهة اكثر السيناريوهات قتامة وسوداوية (التصادم الحاسم). بين الخيارين، يجري الحاكم واجهزته ومستشاروه حسابات معقدة وعمليات مفاضلة صعبة، وانهم- حتى وان بدأ خيار التفرد بالعملية السياسية راجحاً لديهم- لا زالوا منهمكين في حسابات المفاضلة وسط مؤشرات تؤكد ابتعادهم النسبي عن بلوغ نقطة الحسم النهائية. بينما تتكثف معطيات التصادم بين الحاكم والمشترك، ثمة خطوط اتصالية ساخنة- غير ظاهرة- تربط الطرفين دورياً بهدف البحث عن قواسم مشتركة يمكن ان تؤدي لاتفاق انقاذي على طريقة (توافقات اللحظة الاخيرة).
بين مالات التصادم اللائحة، وممكنات التوافق المعقدة، تتفاعل الاحداث وتتقاطع الرؤى وتتباين الاهداف لتبدو غاية (الحسم) بين الخيارين هي ملتقى التفاعلات ومجمع نقاط التباين والالتقاء والمحدد الحقيقي لملامح مشهد مرتقب تسوده نذر التشاؤم. الانتخابات بوصفها فخاً تاريخياً
في ضوء التطورات الاقليمية وتحديداً على صعيدي تونس ومصر، يمكن القول: ان خيار التفرد بالعملية السياسية في اليمن لم يعد يحظى بنسبة التأييد العالية التي كان يتمتع بها قبل نجاح الثورة التونسية في اسقاط زين العابدين بن علي واسرته.
قد لا نبالغ بزعمنا ان نسبة تأييد خيار التفرد بالعملية السياسية ستواصل انخفاظها التدريجي الى ادنى المستويات كنتاج لثلاثة محاور اساسية، اولها: انتفاضة الشعب المصري ضد نظام واسرة الرئيس مبارك، وثانيها: ارتفاع مؤشر الجدية لدى احزاب اللقاء المشترك في تصعيد الاحتجاجات الشعبية وصولاً لاعتماد خيار (التونسية) ان اقتضى الامر ذلك، وثالثهما: ظهور بوادر لتغييرات جذرية في الموقف الامريكي من المعارضة اليمنية لاسيما عقب تصريحات مساعد وزيرة الخارجية الامريكية فيليب كراولي التي اكد فيها ان الولاياتالمتحدة تساند حق اليمنيين في التظاهر والتعبير عن آرائهم. حسب انف التطورات في وسعنا الادعاء جدلاً ان السلطة باتت تدرك عواقب الاصرار على اجراء الانتخابات دون توافق سياسي مع اللقاء المشترك، وبما ان الانتخابات المنفرده من حيث المبدأ تجسد مشكلة اكثر من كونها حلاً، فان استخلاص العبر من الدرس المصري القائم يجعل الانتخابات المنفردة بالنسبة للحاكم اليمني فخاً تاريخياً على طريقة (غلطة الشاطر).
حماقة الاقصاء السياسي للمعارضة قبل انتخابات مجلس الشعب المصري، لم تكن الانتفاضة الشعبية ضد نظام الرئيس مبارك خياراً وارد التطبيق في اجندة القوى السياسية الرئيسية كالاخوان المسلمين واحزاب التجمع والوفد والناصري. حين كانت الجمعية الوطنية بزعامة الدكتور محمد البرادعي تنادي بمقاطعة الانتخابات وتناضل بأقناع الاخوان واحزاب الوفد والناصري والتجمع بعدم المشاركة فيها، كانت تلك القوى السياسية تعارض نداءات المقاطعة وتساند خيار المشاركة في الانتخابات ان لم يكن ايماناً منها بفكرة التغيير السلمي، فبدافع استنفاذ وسائله قبل التفكير بالخيارات العنيفة.. مجمل التوقعات كانت ترجح فوز المعارضة بثلث المقاعد مع احتفاظ حركة الاخوان المسلمين بمقاعدها السابقة التي تبلغ 88 مقعد نيابياً. غير ان الحاكم المصري- شخصاً وحزباً- كان له رأي اخر باصراره على تغييب المعارضة ومصادرة جميع مقاعدها البرلمانية، لتفقد بذلك قوى المعارضة الرئيسية تمثليها لانيابي وتعلن جماعة الاخوان عدم فوزها بأي مقعد في مجلس الشعب الجديد. لقد استنفذت هذه القوى السياسية وسائل التغيير السلمي اذن، ولم يعد في وسعها- عقب انفراد الحاكم المصري بمجلس الشعب- سوى اعتماد الخيار الشعبي كأسلوب للتعاطي مع الوضع الناشىء عن تغييبها وابعادها عن المؤسسات الدستورية ومنعها من سلوك النهج السلمي لتحقيق غاية التغير المنشودة. مظاهرات واعتصامات ومصادمات واعمال عنف وفوضى ومطالبات شعبية باسقاط مبارك واسرته، نتيجة الت اليها الامور خلال بضعة ايام. ولكن.. ماذا لو ان عجلة التاريخ عادت الى الوراء، هل كان الحاكم المصري- شخصاً وحزباً- ليكرر حماقة الاقصاء السياسي لقوى المعارضة عبر ابعادها من مجلس الشعب ودفعها الى الشارع.
سوء تقديري مؤتمري
ان كانت سيناريوهات الاتصال والتواصل بين الرئيس علي عبدالله صالح وبعض قيادات اللقاء المشترك تدل على استيعاب نسبي للدرسين التونسي والمصري، فان في تحركات قيادات المؤتمر الشعبي العام ما يدل على خلاف ذلك.
حين نتتبع مجمل التحركات المؤتمرية خلال انف الايام، نجد اندفاعاً تصعيدياً بوحى بانعدام القدرة على الاستفادة من الدروس الواضحة للتجربتين التونسية والمصرية. ربما كان اندفاعاً محسوباً بهدف درء تهمة الضعف والوهن عن المؤتمر، وربما كان تكتيكاً بتغيا ابراق رسائل للداخل والخارج تؤكد استعداد المؤتمر لكل الخيارات، وربما كان دفع المشترك لتقديم تنازلات هو الهدف، غير ان احتمالات كهذه تجعلنا- بأي حال- نستعيد فرضية عدم استيعاب القيادات المؤتمرية للدرس المصري اما لمكابرة ومغالاة في الاعتداد بالذات والانجازات، واما لسوء تقدير وتبلد استقرائي.
تأجيل الانتخابات دون توافق سياسي! حتى وهو في تموضعه الصعب وخياراته المعقدة يتوهم الحاكم- حزباً وشخصياً- قدرته على التراجح حتى لو ازف الوقت لذلك.
رغم قلقه العميق، يبدي النظام حالياً تصلباً وتماسكاً واصراراً على المضي قدماً في نهج التفرد بالعملية السياسية معتقداً ان الخيار المغاير (تاجيل الانتخابات) سيظل متاحاً حتى اللحظة الاخيرة.
ربما كان في وسع الحاكم ان يتوافق الان مع المشترك على صيغة تأجيلية تحقق له الحد الادنى من المكاسب (الابقاء على المشروعية التوافقية للبرلمان)، غير ان معادلة كهذه قد لا تكون قابلة لاعطاء نواتج مماثلة في حال ازف الوقت وبلغنا جميعاً اعتاب موعد الانتخاب.
لا يبدو ان الحاكم يحسب حساباً للوضع الناشئ عن رفض اللقاء المشترك- في الوقت القاتل- لخيار تأجيل الانتخابات بتوافق سياسي، وهو ما قد يعني احد امرين، فاما ان تؤجل الانتخابات بقرار جمهوري دون توافق سياسي وفي هذه الحالة سيفقد البرلمان مشروعيته التوافقية بعد ان فقد مشروعيته الانتخابية في فبراير 2009 وستصل البلاد الى حالة فراغ دستوري، وام ان يمضي الحاكم في سيناريو التفرد بالعملية السياسية بالعاً بذلك طعم الانتخابات المنفرده وما سيترتب عليها من تهديدات وجودية بالنسبة له. علماً ان المادة (65) من الدستور التي تمنح البرلمان شرعية الاستمرار ان تعذر اجراء الانتخابات، لا تسري على البرلمان الحالي- حسب مزاعم بعض القانونيين- نظراً لكونه فقد مشروعيته الشعبية والانتخابية في فبراير 2009م واضحى يستمد وجوده ومشروعيته من التوافق السياسي بين المؤتمر والمشترك.
وماذا بعد؟ حين نتأمل في مسببات ما الت اليه الامور في مصر وتونس، نجد ان (الفهم المتأخر) جسد تعليلاً جوهرياً لاتجاه الاوضاع في منحدرات العنف والفوضى. ثمة اجماع لدى مراقبين كثر على ترشيح اليمن للدخول في معمعة (التونسية) والالتحاق بالنظام المصري الذي يقاوم نزعات الاسقاط الشعبية العاتية. رغم سيناريوهات التصعيد المتبادلة بين المشترك والحاكم، الا ان خيارات الاحتواء وممكنات التوافق لا تزال متاحة وان بنسب متضاءلة.
ربما كانت مقاطعة الانتخابات- من الناحية النظرية- انتحاراً سياسياً للمشترك على حد تعبير الرئيس، غير ان الانتخابات المنفردة- من الناحية العملية- تجسد انتحاراً وجودياً للحاكم. وبالتالي لا يبدو الانتظار والترقب عامل اسناد واداة عون بالنسبة للحاكم- شخصاً وحزباً- فالوقت يمضي سريعاً، وتأثر التصعيد المشتركي المؤتمري تتسارع بانتظام والخيارات تتضاءل تدريجياً، ونذر التصادم والفوضى تتراءى في الافق. فهل سيستفيد الحاكم اليمني- حزباً وشخصاً- من حماقات الحاكم المصري- شخصاً وحزباً- بصورة تؤدي لتأجيل الانتخابات وتعزيز الحريات والانصات لنداءات الحوار الوطني والمشاركة في السلطة والثروة، ام ان فواصل العناد وسيناريوهات المكابرة ستتسبب في الحاق النظام اليمني بنظيره المصري الذي يتداعى ويلفظ انفاس ما قبل السقوط. ان كان النظام اليمني قد ادمن تقليد ومحاكاة شقيقه المصري في كل شيء، فينبغي عليه ان كان حريصاً على البقاء دهس فرامل الاستواب وايقاف نهج المحاكاة والتقليد حتى لا تتحول النهاية الى قاسم مشترك بينهما وكفى!! حسين اللسواس - [email protected] نقلا عن صحيفة حديث المدينة