الزمن: الخميس 23/10/2008م، الساعة الخامسة عصراً. كانت السيارة القادمة من إحدى دول الخليج تسير رويداً رويداً والفرح يملأها بعد أن قضت يوما سياحيا جميلا ومبهجا منذ الصباح حتى العصر، وما هي إلا دقائق حتى تحولت فرحة تلك الأسرة التي كانت بداخل السيارة إلى كابوس مفاجئ حيث بدأت السيول القادمة من المجهول تتدفق بالوادي شيئاً فشيئاً.. ابتعدت السيارة عن ممر السيل بقدر الإمكان لتجنب الخطر ولكن زاد تدفق السيول أكثر فأكثر فحاصرها من جميع الجهات، وفجأة توقف المحرك عن العمل لتبقى السيارة قابعة في الوادي إلى ما شاء الله.. الكل كان يشاهد المنظر المفزع عن كثب ولكن دون جدوى للإنقاذ.. بدأت الساعات تمر وأظلم الليل ولم يتوقف جريان السيل عن الاندفاع. في هذه اللحظة الكل يصعد أعلى السيارة (الأم وأطفالها).. أشتد الصراخ لطلب المساعدة ولكن دون جدوى رغم وجود فرقة الإنقاذ التابعة للدفاع المدني.. وفي تمام الساعة العاشرة والنصف تم الاتصال بالشاب عرفات فيصل عبد الحفيظ البالغ من العمر 23 عاماً والذي يعمل في إحدى الشركات القريبة من الحادث ليحضر معه (الحبال) لسحب وإنقاذ السيارة.. وصل الشاب عرفات وزملاؤه إلى مكان الحادث بسيارة الشركة فكان الموقف أكبر مما يتخيله عقل بشر.. أُصيب بالدهشة هو ومن معه من هول المنظر، الكل عاجز عن إنقاذ الأسرة المحاصرة المكونة من (9 أفراد).. حاول عرفات العودة إلى مقر عمله لكنه لم يستطع.. المرة تلو الأخرى يصعد السيارة للعودة ثم ينزل منها.. أشتد صراخ الأم وطفلها الصغير يدوي في آذان وقلوب الحاضرين وهم يرددون "أنقذونا.. أنقذونا" لكن الكل يتباطأ أمام الاستغاثة والصراخ والبكاء إلا عرفات لم يحتمل الموقف فقرر النزول.. منعه الحاضرون من ذلك فرفض، مبرراً "أن الأقدار بيد الله، ولو شاء الله لي الموت فلا مفر من إرادة الله". حاول عرفات أن يربط نفسه بحبل عادي فمنعه رجال الدفاع المدني من ذلك لما فيه من خطر عليه، وعندما أصر على النزول لإنقاذ الأم وأطفالها قدم له رجال الدفاع حبال الوقاية الخاصة بالإنقاذ.. تم ربطه بإحكام فتقدم بكل شجاعة نحو السيارة والحبال بيده.. وبعد عراك شديد مع السيل المندفع وصل عرفات إلى السيارة فحس الجميع بأمن الحياة بعد أن كانت السيارة شبه مطمورة بالرمال ومخلفات السيل، وبينما كان عرفات يحاول بشجاعة نادرة ربط السيارة بالحبال والليل مظلم، قدمت موجة أخرى من السيل أقوى من سابقتها وفي لمح البصر جُرفت السيارة بمن عليها بعيداً نحو قدر مجهول لا يعلمه إلا الله، وعادت جثة عرفات هامدة بعد أن أخذت السيول روحه الطاهرة لترقى إلى بارئها راضية مرضية لما قام به من عمل بطولي وشجاع بعد أن تخاذل الجميع من محاولة الإنقاذ إلا هو.. اشتدت ظلمة الوادي بموت عرفات وتلاشى صراخ الأم وأطفالها واختفى، وامتزج السيل برائحة الموت، وامتلأ الوادي حزناً لموت عرفات.. فهنيئاً لأم حملت في أحشائها ذات يوم عرفات.. هذا ما صرح به أحد الحاضرين للمستقلة وهو الأخ نبيل سيف محمد الذي رافق جثة الشهيد من مطار حضرموت إلى مطار صنعاء، ومن ثم إلى منزل أبيه في تعز ثم إلى مسقط رأسه عزلة الأعبوس ليدفن هناك.. احتضنت نخلة لمدة تسع ساعات بدورنا قابلنا والد الشهيد عرفات الأخ فيصل عبد الحفيظ عبد الله فوجدناه نعم المؤمن الصبور بقضاء الله وقدره، فقد تحمل المصاب بشجاعة وفخر وحمد الله على كل حال وشكر كل من شاركه العزاء ونقل أيضاً جزيل شكره للشركة التي كان يعمل بها ولده لما قامت به من دور إنساني وأخلاقي تجاه جثمان ابنه ونقله من حضرموت إلى مسقط رأسه والمشاركة في دفنه.. وأكثر ما أثلج صدره وخفف من حزنه هو عرفان أم الأطفال للدور الذي قام به ابنه بعد أن تم إنقاذها وحيدة ممن كانوا في السيارة (بعد أن تم العثور عليها محتضنة جذع نخلة لمدة تسع ساعات).. فلم تنسَ تلك الأم دور الشهيد عرفات رغم فقدانها أفراد أسرتها جميعاً.. لم تنسَ شجاعة وتضحية عرفات رغم حالتها النفسية والصحية، وقبل كل شيء فور إنقاذها طلبت من أهلها البحث عن أب الشهيد عرفات والتواصل معه لتعزيته، وفعلاً وبعد جهد تم التواصل مع أب الشهيد من قبل أهل وقبيلة ومشائخ الأسرة المنكوبة وتقديم العزاء له.. فرحم الله عرفات شهيد حضرموت وأسكنه فسيح جناته..