عبد الوهاب قطران لم أكن أنوي سوى عطلة هادئة، بعيدًا عن صخب الحرب، عن مواقع التواصل، عن لعنة التصنيفات والانتماءات… كنت أريد عدن فقط، مدينة تشبه القصيدة، وطنًا صغيرًا يحتفظ بابتسامته رغم الخراب.
من صنعاء شددنا الرحال، وفي جيبي مفاتيح شقة في الحديدة، أهداها لي أخ وصديق قبل أن يسافر، لكن كاميليا ونصر – من مواليد ما بعد أفول الجمهورية – أصرّا على عدن، كأنما كانا يشتهيان أن يريا الوطن في صورته الأولى، كما كان يحدث إخوتهم الأكبر، حين كان العيد يبدأ من البحر ولا ينتهي.
طرحت الأمر للتصويت – كما يليق بعائلة تعشق الحرية – فكان القرار: عدن. وفي الطريق، كان قلبي يخفق بالقلق، وفي "معبر"، كنت على وشك الرجوع… لكني فجأة، كمن استعاد ذاكرته، قلت لنفسي: "عدن ليست ساحة معركة، هي مدينة يمنية، أنا قاضٍ، ومواطن، ولي الحق أن أتنقل في وطني دون وصاية أو إذن من أحد!"
فدخلت عدن، كما يدخل العاشق على بيت الحبيبة دون طرق الباب. دخلت عدن مواطنًا لا تابعًا، رافع الرأس، مكلوم القلب، لكنني خرجت من صمتي على وقع مفاجآت لن أنساها:
من مريس إلى المعلا، استقبلتنا الحواجز بلطف وذوق ومسؤولية، حتى نقاط الشرطة النسائية، كان فيها من الرقي ما يجعلنا نخجل من أحكامنا المسبقة. إلا نقطة ردفان... فقد باغتنا أحد ضباطها بغلظة الغريب، وكأننا لا نحمل نفس الجواز ولا نتكلم ذات اللسان. لكن التوجيهات أتت سريعة: "دعوهم يمرون… واعتذروا!" وكان ما كان.
دخلنا عدن، دخلناها والعيد معنا، دخلناها وعاد النبض لأطفال لم يعرفوا الوطن إلا مجزّأً.
كاميليا ونصر بهرا بها، شواطئها، ناسها، لهجتها، رقتها، وقالا لي مساءً: "أبي، هذه ليست مدينة… هذه حكاية!"
عدن احتضنتنا، وحدها من بين الخرائب، لم تسألنا: من أين أنتم؟ بل فتحت لنا قلبها، رغم كل ما قيل عن الانتقالي، والنزاع، والانفصال... عدن كانت أكبر من الجميع.
لكننا صحونا فجأة على حملة تحريض بائسة: في صنعاء، أنا "مرتزق وعميل وعفاشي وبقدش دافي!"
وفي عدن، أنا "حوثي"!! ضحكت، لا من التهمة، بل من العار الذي صار سلاحًا بيد الفاشلين.
ما أثلج صدري لم يكن الرد، بل تضامنكم أنتم – أحرار اليمن – في الجنوب والشمال، في عدنتعز والبيضاء وشبوة وصنعاء ولحج، اتصالاتكم، رسائلكم، منازل فتحتموها لي، رجال عرضوا حمايتي، ونساء كتبن بكاءَ الوطن في تعليقاتهن.
لكم جميعًا، أهدي امتناني، وأعدكم بقصّة كاملة، عن رحلة العيد حين اختارت أن تكون إلى ما تبقى من الوطن: عدن.
* الصورة عصر اليوم بضيافة الرفيق العزيز والاخ الوفي مجاهد الفضلي.. مقيلين على ساحل ابين.. عدن ذو الحجة 1446ه / يونيو 2025م