محمد الصهباني يعود الحاج محمد سيف البرطي من صلاة الجمعة إلى منزله مبتسماً، وتزداد ابتسامته وهو يرى أطفال الحي يتسلّمون الشوكولاتة من يد أحد أبنائه. لا يسأل عن عددهم، ولا يفرّق بين طفل وآخر. شاهدتُ هذا المشهد مراراً وتكراراً، ولم أره يوماً يضيق بطفل، أو يتذرّع بأن ما لديه قد نفد. أعتقد أنه ليس من الإنصاف الكتابة عن الرجل السبعيني، الحاج محمد سيف، في منشور أو حتى ثلاثة. ابن مدينة الدمنة، بمحافظة تعز، يصفه أهل البلدة ب"العمدة"، لا لمنصب يشغله، بل لما يحمله من مقام في القلوب. نشأ في بيت كريم، فصار كريماً بلا استعراض، لا ينتظر شكراً، ولا يعرف طريق الشهرة. فليقل أحد: من يضاهيه في الكرم والإنسانية في الدمنة؟ منذ سنوات، يتحلّق أطفال الحي كل جمعة أمام بيته، ينتظرون حلوى تُقدَّم بابتسامة. يعطي بسخاء، لا طمعاً في شكر، بل لأن الفرح حقّ للصغار، ولأن الكرم خُلق أصيل لا يتوقف على ظرف أو مناسبة. وفي زاوية محاذية لمنزله، يقدّم وجبات طعام للبائسين، خصوصاً. وبالمناسبة، الحاج محمد سيف ليس مسؤولا رسمياً فاسداً، ولا صاحب منصب يوزّع من مال عام. هو رجل من عامة الناس، يعطي من ماله الخاص، بصمت ورضى ونية طيبة. لا تحكم كرمه الكاميرات، ولا تحرّكه المناسبات. إنه الكرم الذي يحبّه الله؛ كرم لا يعلم ما تقدّمه يداه في الخفاء إلا الله. يقول أرسطو: "الكرم هو العطاء عن قوة، لا عن ضعف؛ عن حكمة، لا عن تبذير"، واضعاً هذه الفضيلة في نقطة التوازن بين الإفراط والتقتير، في قلب فلسفته الأخلاقية التي لا ترى في الخير مجرد فعل، بل حالة من الاعتدال الواعي. أما أفلاطون، فكان يرى الكرم "شعوراً راقياً لا يتغذى من الفائض، بل من أعماق الإنسان حين يشعر بحاجته، ويمنح رغم ذلك". فالكريم ليس من يملك كثيراً، بل من يملك نفسه في لحظة الاختيار. في المقابل، يربط ابن رشد الكرم بالحرية والعقل، قائلاً: "الكرم من شيم النفوس العالية، لا يكون إلا مع الحرية والعقل". وفي موضع آخر من فكره، يكتب: "الكرم سلوك عقلٍ حر، لا عادة ولا تباهٍ، بل سموٌّ في النظر إلى الحياة". والكرم، عند الفلاسفة المسلمين كما عند الإغريق، ليس طقساً اجتماعياً، بل موقفٌ فلسفي يعبّر عن نظرة سامية للوجود. جان جاك روسو، بدوره، قدّم تأملاً إنسانياً في معنى الكرم حين قال: "الكرم هو أن ترى الآخر في مرآتك، قبل أن ترى نفسك"، في إشارة إلى أن العطاء الحقيقي هو إعادة الاعتبار للغير في مرآة الذات، لا مجرد نزول لحظة إلى مستوى المحتاج. أما نيتشه، فرغم قسوته الفكرية، فقد أنصف الكرم حين قال: "ليس الكرم أن تُعطي كثيراً، بل أن تُعطي دون أن تشعر أنك فقدت شيئاً"، موحياً بأن الكريم هو ذاك الذي تجاوز مفهوم الملكية نفسه. إن الكرم، في جوهره، لا يرتبط بالمادة، بل بالإرادة؛ لا بالثروة، بل بالبصيرة. وهو، قبل أن يكون عطية، موقفٌ من الحياة، وصيغة راقية للوجود. فالكرم، كما قال طاغور، "لغة القلب حين يتكلم بلا خوف"، والقلوب الكبيرة وحدها هي التي تعرف كيف تعطي، دون أن تطلب شاهداً أو صدى. محمد سيف ليس مجرد رجل طيب، بل صاحب بصيرة نافذة في أحوال الناس. يرى أن كثيراً من مشاكل المجتمع، خاصة نزاعات الأراضي، لا تعود فقط إلى فساد القضاء، بل إلى جشع النفوس وضيق الصدور. لم يسعَ للظهور يوماً، لكنه حاضر في القلوب. بيته كل جمعة يتحوّل إلى واحة فرح. يعطي لأنه يرى في العطاء قوة، وفي إدخال السرور على الأطفال أجراً عظيماً. رجل بهدوئه، وكرمه، وثباته، صار رمزاً أصيلاً في الكرم. وكان عليّ أن أكتب عنه منذ زمن، لكنني تأخرت، ربما. لا بأس. المهم أن يبتسم كما يفعل دائماً.. بتواضع، وطيبة، وإنسانية صافية. وهو الكبير، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ربما لا يقرأ هذه الكلمات، وربما لا يهتم أن يُكتب عنه أصلاً، لكنه دون أن يدري يمنحنا جميعاً دروساً في الإنسانية.