يحيى الرباط تخيّل... لكن لا تتخيّل بسطحية. تخيّل أن الحياة كلها تسير بك إلى هاوية لا قاع لها، وأنك تعيش كل لحظة كما لو أنك تحفر قبرك بأظافرك، وأن أكثر ما تتمناه، هو أن تنتهي دون أن تبكي. تخيّل أنك أب، مسحوق كتراب الطريق، كل ما تملكه في هذه الدنيا ابنٌ واحد، ليس لأنه الوحيد، بل لأنه ما تبقّى من قلبك في هذا العالم، ولدٌ يشبهك حتى في انكسارك، في صمته حين يجوع، وفي انحناءة ظهره حين ينام على الهمّ. كل صباح يخرج ببنطاله الممزق، لا يحمل حقيبة، ولا حلمًا، بل يذهب إلى إحدى المزارع، يبحث عن يومية لا تُشبع، أو وجبة تَقي الجوع، كأن كل يومٍ يُعيده إلى زمن لا يرحم من لا يملك شيئًا. كان يحمل نفسه كمن يحمل هزيمته، يمشي فوق الأرض وكأنه لا ينتمي لها، ذاك البنطال الباهت الذي كان من المفترض أن يشدّ خصره، تحوّل إلى حبل، ينتظر فقط اللحظة المناسبة ليخنق آخر ما تبقّى فيه. ثم، يأتيك الخبر. لا طرقات على الباب، لا رسائل، لا إنذار مسبق. فقط صراخ يخترق الجدران والوقت والصبر: "أيها الرجل، ابنك شنق نفسه!" تُجَنّ تركض، تسقط، تنهض، لا تعرف هل تمشي أم تسقط أم تحترق، الجملة تتردد داخلك كاللعنة: "ابنك مات .. شنق نفسه .. مات!" تصل إلى المكان. وهناك، تراه معلّقًا بخيط بنطاله، قدماه لا تلامسان الأرض، وجهه أبيض كالقبر، وعيناه نصف مفتوحتين، كأنهما تنتظرانك، أو تسألانك: "أين كنت؟" تمدّ يدك إليه، تحاول أن تلمسه، أن تعيده، لكنه غادر. لا صوت يرجعه، لا صراخ، لا بكاء، لا دعاء... هو غادر. لم يمت برصاصة، ولا في البحر، ولا بسبب قصف أو لغم. مات بخيط رخيص من بنطاله. مات لأن الحياة لم تترك له مخرجًا آخر. ثم تبدأ المسرحية الملعونة. يأتي رجال الشرطة، والمسؤولون، والمصورون، والمخبرون، يدوّنون، يلتقطون الصور، يحرّكون رأسه، يقلّبونه كما تُقلَب قطعة أثاث مستعملة. ولا أحد منهم يجرؤ أن يقول: "ارفعوه، هذا ابن إنسان" والجسد؟ يبدأ بالتيبّس. النمل يتقدّم، الذباب يحتفل، وأنت واقف كأنك تمثال من الملح وسط نار، تتأمل ابنك، وقد سُلب حتى من كرامة موته. لا أحد يسأل: لماذا؟ لا أحد يملك الشجاعة ليقول: ما الذي جعل طفلًا في عمر الحلم يشنق نفسه بحبل سرواله؟! لكنك تعرف الجواب... الجواب أفظع من كل الكلمات: فقر قاتل، قهر مستمر، عجز يومي، مجتمع لا يسمع إلا ضحكه، ولا يرى إلا الأغنياء. ابنك لم يكن ضعيفًا... بل كان أقوى من كلهم، لكنه حُشر في زاوية لم تترك له إلا الموت ككرامة أخيرة. لا أحد يفهم هذا... الكل يسأل: كيف مات؟ ولا أحد يسأل: كيف عاش؟! فلا تسألني لماذا انتحر... اسأل هذا البلد، واسأل هذه الحياة التي لم تترك لنا إلا الغصن الأخير لنتدلى منه. واسأل نفسك: كم شجرة تنتظر، وكم حبل يُنسَج الآن في صمت، وكم ابن سيغادر قريبًا... لأن أحدًا لم يحتضنه قبل أن يحتضنه الغصن.