تُقدّم هذه المادة مجموعة من التحليلات النقدية المتنوعة لنص "استجداد وتعري" ل"أحمد سيف حاشد"، المنشور ضمن كتابه "فضاء لا يتسع لطائر"، بالاستعانة بمنهجيات تحليل نصوص مدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي. قراءة أدبية نقدية للنص يعرّي الكاتب والبرلماني أحمد سيف حاشد في هذا النص الذات والسلطة معًا، كأن الكتابة هنا فعلُ تعرٍّ من الأقنعة.. مشرط جراح يزيل الزيف.. فتح الوعي على الضوء.. عملية تشريحٍ مزدوجة للسلطة والذات. إنه ليس مجرد سردٍ للأحداث، بل ارتحالٌ كونيٌّ بين فضاءات الوجع الإنساني فيه تتحوّل التجربة الفردية إلى كونٍ موازٍ، يجتمع فيه الشخصي بالجمعي.. لوحة فنية تجمع بين العمق الفلسفي والجمال الأدبي. مزج بين الألم والرؤيا، والتجربة الفردية بالوجع الجمعي. " استجداد وتعري" نصّ يسعى إلى تحرير الإنسان من خوفه الأول: خوفه من العُري أمام الحقيقة، ومن الانكشاف أمام ذاته التي تتوق إلى فضاءات الحرية. يؤسس أحمد سيف حاشد في هذا النص لكتابة جديدة في الأدب اليمني — كتابة تتخذ من الجسد مدخلاً للفكر، ومن السيرة مدخلاً للفلسفة، ومن التجربة الشخصية مرآة للواقع السياسي والاجتماعي. نصٌّ يعرّي العالم في كتابته «استجداد وتعرٍّ»، لا يتحدث أحمد سيف حاشد بلسان السيرة وحدها، بل بلسان الإنسان حين يُدفع إلى أقصى حدود التجربة. هو نصّ يبدأ من الذاكرة العسكرية لينتهي في عتبة الفلسفة الوجودية. من "الاستجداد" إلى «التعرّي» كفعل تحرّر صادم.. يخطّ الكاتب رحلة الجسد وهو يعبر من القسر إلى الوعي، ومن الطاعة إلى السؤال. النصّ في جوهره تجربة مزدوجة: تجربة قهرٍ تصنع الجسد العسكري، وتجربة وعيٍ تهتك حجب الخوف. ولعل جمال هذا النصّ أنه لا يكتفي بأن يروي، بل يفكّر من داخل الألم، ويحوّل المعاناة إلى فكرة، والفكرة إلى احتجاج، والاحتجاج إلى معنى فلسفي يخصّ الإنسان في كل زمان ومكان. حين يختبر الجسد حدود الطاعة في الصفحات الأولى يضعنا حاشد أمام تجربة "الاستجداد" في الكلية العسكرية: خمسة وأربعون يوماً من الانضباط الحديدي، والعقوبات المذلة، والرهان على البقاء للأقوى. لكن ما يبدو تدريبًا جسديًا سرعان ما يتكشف عن كونه طقسًا سلطويًا لإخضاع الإنسان. هنا يستعيد النصّ روح "ميشيل فوكو" في المراقبة والمعاقبة، حيث يتحوّل الجسد إلى مساحة استثمار للسلطة، ويصبح الألم وسيلة لتطويع الوعي. بيد أن حاشد لا يكتفي بالرصد النظري، بل يغزل للتجربة بعداً وجدانياً شفيفاً، حيث تتسلل نبرة الإنسان المقهور لتُعلن ميلاد الرفض في شرارة الانكسار الأولى. إنها بذرة الكرامة التي لن تلبث أن تُزهر احتجاجاً صريحاً في وجه كل قيد، سواء كان سياسياً، دينياً، أو اجتماعياً." من خجل الجسد إلى خجل الوعي حين ينتقل الكاتب إلى الحديث عن الاغتسال الجماعي، وعن الحمّامات التي «بلا أبواب»، ينفتح النصّ على أفق جديد: أفق الجسد العاري في مواجهة الوعي الاجتماعي. هنا يكتب حاشد بصدق عارٍ كالمرآة. يصف حياءه وخجله، ثم اكتشافه التدريجي أن «العورة تسكن الوعي أكثر من أي مكان آخر». بهذه العبارة البسيطة يختصر تجربة فلسفية عميقة: أن الحياء ليس من الجسد، بل من الوعي الذي صاغه الخوف والتابو. يذكّرنا هذا المقطع بتجارب سارتر حول "نظرة الآخر"، حين يصبح الإنسان واعيًا بجسده لأنه يُرى، وبكتابات طه حسين في الأيام حين يكتشف أن العجز الحقيقي ليس في الجسد بل في النظرة الاجتماعية إليه. ومن خلال المقارنة مع تجربة العربي في برلين، حيث يصبح التعرّي مألوفًا في الثقافة الغربية، يُظهر الكاتب مفارقة الحضارتين: الشرق يخاف الجسد كرمز للخطيئة، والغرب يراه فضاء للحرية. غير أن الكاتب لا ينحاز، بل يتأمل: فالتعرّي ليس قيمة بحد ذاته، بل اختبارٌ لحرية الإنسان في بيئته. من الجسد إلى الفكرة في لحظة التحول الكبرى، يتبدّل التعرّي من تجربة شخصية إلى لغة احتجاجية. يستحضر حاشد حادثة منيف الزبيري الذي حاول إحراق نفسه تضامنًا مع الجرحى، ثم يتذكّر أنه هو نفسه كاد أن يتعرّى احتجاجًا في قاعة البرلمان. هنا يلتقي الجسد بالسياسة في أبلغ صورها. يكتب حاشد: «شرعتُ بالتعرّي محتجًا في قاعة مجلس النواب، غير أن بعض النواب هرعوا وحالوا دون إكمال ما بدأته...». هذه الجملة وحدها تختصر مأساة الديمقراطية الشكلية، حيث يُصادر الصوت كما تُصادر الحرية، وحيث يصبح الجسد آخر وسيلة للقول حين يُمنع الكلام. يستدعي الكاتب سابقة "أنطونيو غارسي" في المكسيك، و "الليدي غوديفا" في إنكلترا، وهالة الفيصل في ساحة "واشنطن سكوير". بهذا الربط يضع التجربة اليمنية في سياق إنساني كوني: الجسد كمسرح للاحتجاج. وهي فكرة تذكّرنا بكتابات "جوديث بتلر" التي ترى أن الجسد يمكن أن يكون "خطابًا سياسيًا مضادًا" حين تنعدم مساحة القول. لكنّ الكاتب، وهو الحقوقي والسياسي، يدرك أن التعرّي في مجتمع محافظ ليس سوى انتحار علني. إنه وعيٌ بحدود الحرية، ولكنه أيضًا احتجاجٌ على غيابها. انكشاف العالم وسقوط الأقنعة في القسم الأخير، يتجاوز حاشد حدود الجسد إلى تعرية المجتمع. يكتب بمرارة شاعرية: «اليوم صار كل شيء يتعرّى حتى من ورقة التوت... تعرّت الأنظمة والجماعات وسلطات الأمر الواقع... تعرّى النهابون والفاسدون والتافهون.» هنا يتحول التعرّي إلى استعارة كبرى للفساد والانكشاف الأخلاقي. إنه ليس عريًا حسّيًا، بل عري الضمائر والأقنعة. في هذا المقطع يبلغ النصّ قمته الرمزية، حيث يتقاطع الشعر بالسياسة والفلسفة في نسيج واحد. كأننا نسمع صدى جورج أورويل في "1984" حين تنكشف الأكاذيب الرسمية، أو روح عبدالرحمن الكواكبي في طبائع الاستبداد حين يفضح الطغاة الذين يختبئون خلف الدين. ويعيدنا الكاتب إلى المفارقة القاتلة: مجتمع يتعايش مع الجوع والظلم، لكنه لا يحتمل خصلة شعر مكشوفة. بهذه المفارقة يعرّي الكاتب ثقافة الخوف والازدواج الأخلاقي، ويصوغ واحدة من أكثر الصور مأساوية وصدقًا في الأدب اليمني الحديث. بين الشهادة والقصيدة لغة أحمد سيف حاشد هنا ليست لغة تقارير أو مقالات سياسية، بل لغة شاعر في هيئة برلماني. تتأرجح بين حرارة التجربة وشفافية الفكرة، بين جملة واقعية وأخرى مشحونة بالمجاز. فهو يقول مثلاً: «كنتُ حين أخرج إلى المدينة بملابسي المدنية، أشعر كعصفور تحرر من قفصه.» هذه العبارة وحدها تختصر التحول من الجسد المقيد إلى الجسد الطليق، ومن الطاعة إلى الحرية. اللغة هنا ليست وسيلة للتعبير فقط، بل جزء من التجربة نفسها، لأنها تنبض بالإيقاع الداخلي الذي عاشه الكاتب في لحم روحه وجسده. جماليات الكشف والبوح – السرد نبرة السرد تجمع بين صدق الاعتراف وتأمل الفيلسوف، وبين صرامة الجندي وهشاشة الشاعر. اللغة مشحونة بالعاطفة لكنها محكومة بالعقل، وفيها قدرة مدهشة على تحويل التجربة القاسية إلى نصّ جمالي متوهّج بالمعنى – الصورة الفنية والرمز يتعامل حاشد مع الجسد بوصفه رمزًا للإنسان في كل حالاته — المقهور، المتمرد، والمكشوف. فالعُري في النص ليس فعلًا جسديًا فقط، بل انكشاف الوعي أمام ذاته. – البعد الجمالي الكاتب يكتب بصدق التجربة، لكنه يصوغها بلغة الفن. إنه يخلق جمال المقاومة لا جمال الزينة، جمال الحقيقة العارية لا جمال الزيف المصقول – الرؤية الكلية في النهاية، يقدّم النص مشروعًا رمزيًا للتحرر: تحرّر من السلطة، ومن الخوف، ومن الوهم الجمعي. يعرّي الكاتب الواقع السياسي والاجتماعي كما يعرّي ذاته، فيتوحّد البوح الشخصي مع النقد العام، في تجربة نادرة تمزج الاعتراف بالشهادة، والكتابة بالاحتجاج. تكثيف «استجداد وتعرٍّ» نصّ استثنائي في الأدب اليمني المعاصر، لأنه يجرؤ على نزع القداسة عن العادة، وكشف العاري في المجتمع والسلطة معًا. يكتب حاشد بروح المفكّر، وبجَمال شاعرٍ يرى في الجرح نافذةً إلى الحقيقة، وفي التعرّي طريقًا إلى الحرية بين الوعي والعري في نهاية النص، لا يقف حاشد عند حدود السرد، بل يسائل مصير الإنسان اليمني في زمن الحرب والجوع: «أن تتعرّى احتجاجًا فذلك الكفر كله، أما أن تموت من الجوع فذلك شأنك...». بهذا الختام المؤلم، يضعنا أحمد سيف حاشد أمام مفارقة الوعي في العالم العربي: نجرّم من يكشف الحقيقة، ونسكت عن من يعرّي الوطن من كرامته. وهنا تتوهج اللمسة الشعرية في قلب المأساة؛ إذ لا يبقى أمام الإنسان سوى عُري الحقيقة، عُري الجسد والضمير، عُري السؤال الذي لا يملك إجابة. "استجداد وتعرٍّ" ليس مجرد نصّ، بل تجربة روحية وفكرية تمتحن حدود الإنسان بين الانضباط والحرية، بين الحياء والكرامة، بين الجسد والوعي. وفيه يثبت حاشد أنه لا يكتب ليصف، بل ليفضح، وليحرّر، وليفتح أفق السؤال. إنه نصّ يمشي على خيطٍ بين الشعر والفكر، بين الاعتراف والاحتجاج، بين الألم واليقظة. وبذلك يضيف إلى الأدب اليمني نصًا إنسانيًا فريدًا، يتجاوز الجغرافيا إلى إنسانية الإنسان حين يُعرّي ذاته والعالم في لحظة صدق مطلق في الختام، يترك أحمد سيف حاشد نصه مفتوحًا على السؤال: ماذا يحدث لو تعرّى يمني أو يمنية احتجاجًا على الحرب أو الجوع؟ الجواب يأتي من الواقع لا من الخيال: «لن يحيا بعدها يومًا أو ساعة». إنها نهاية تكثّف مأساة مجتمع يرفض التعرّي احتجاجًا لكنه يتعايش مع الجوع والموت. بيان للحرية في "استجداد وتعرٍّ"، لا يروي الكاتب مجرد تجربة ماضية، بل يكتب بيانًا للحرية، ويعيد تعريف "الحياء" كقيمة لا تتناقض مع الوعي، بل تحيا به. وبذلك ينتمي النص إلى تقاليد كبرى في الأدب الإنساني، من المتنبي الذي قال «أنا الغريق فما خوفي من البلل»، إلى جوديث بتلر التي رأت أن الجسد هو أول خطاب احتجاجي للإنسان في وجه السلطة. قراءة سوسيولوجية للنص الاستجداد بوصفه مؤسّسة لإنتاج الطاعة والانضباط فترة الاستجداد تُمثّل في التحليل السوسيولوجي لحظة انتقال حادّ من "الذات المدنية" إلى "الذات العسكرية". هنا لا يتعلق الأمر بتعليم مهارات قتالية فحسب، بل بإعادة تشكيل البنية النفسية والاجتماعية للفرد. ينتمي هذا إلى ما يسميه ميشيل فوكو ب"تقنيات الجسد" في مؤسسات الانضباط (الجيش، السجن، المدرسة، المصانع). خلالها يُصبح الجسد: موضوعاً للسيطرة، ومجالاً للعقوبة، وأداة لإنتاج الطاعة. ووفق منطق البقاء للأقوى، لا يتم اختيار الأنسب بل غربلة الأضعف. فالغاية ليست تكوين جندي فحسب، بل خلق إنسان جديد يتقبل السلطة دون مساءلة. من حياء الفرد إلى تفكيك تابوهات المجتمع الطالب الذي نشأ في بيئة محافظة ذات حساسية عالية تجاه العورة يجد نفسه مجبراً على الاغتسال عارياً أمام الآخرين. وهنا نلاحظ: انتقال العُري من منطقة العيب إلى منطقة المألوف. والقول: "العورة تسكن الوعي أكثر من أي مكان آخر" يشير إلى أن الحشمة ليست بيولوجية وإنما بناء اجتماعي. وبمعنى آخر: العُري ليس في الجسد، العُري في النظرة إليه. التعرّي كفعل احتجاج سياسي وفي القسم الثاني ينتقل حاشد من تجربة شخصية إلى تعرية سياسية بالمعنى الرمزي والمباشر. في الأنظمة الشمولية أو الأبوية المتصلبة، يصبح الجسد آخر ما يملكه الفرد للاحتجاج. التعرّي هنا ليس إباحية، بل إعلان مواجهة: انكسار الخوف الاجتماعي فضح السلطة بقسوتها تفجير التابو لا من أجل الجسد، بل لإظهار جسد السلطة نفسه عارياً وعندما قال الشاعر: "ما كانت الحسناء ترفع سترها لو أن في هذه الجموع رجالاً" فإن العُري هنا يُقرأ ك اتهام أخلاقي للمجتمع لا كفعل فجور. السلطة والمعيار الأخلاقي الكاتب يضع مفارقة صادمة: المجتمع يقبل عُري الفساد، لكنه لا يقبل عُري الجسد احتجاجاً. بمعنى: نظام الأخلاق في المجتمع لا يهدف لضبط الفساد، بل لضبط الجسد. يتم التساهل مع: نهب الرواتب، وسرقة المساعدات، والحرب والخراب. ويتم التشدد فقط تجاه: خصلة شعر، وصوت امرأة، واحتجاج جسدي هنا تتجلى أبوية مُسيطرة لا تهدف لحماية الأخلاق، بل لحماية نظام السيطرة نفسه. نتيجة سوسيولوجية النص يكشف أن: 1. السلطة تبدأ من الجسد وتنتهي إليه. 2. أشد الحروب وحشية تُقبل مادامت "تُدار بملابس"، بينما يُرفض أقل احتجاج إذا انكشف فيه الجسد. 3. الأخلاق تُستخدم أداة للضبط، لا للحماية. 4. الصدمة الجسدية (التعرّي) تصبح وسيلة تفكيك لمعاني الطاعة والخضوع. تكثيف سيوسولوجي المجتمع الذي يرى الشعر عورة والجوع قدراً سيظل يرى الاحتجاج جريمة، والصمت فضيلة. نص استجداد وتعرٍّ! أحمد سيف حاشد كانت فترة (الإستجداد) خمسة وأربعين يوماً، يبدأ احتسابها من يوم الالتحاق بالكلية، وهي فترة ثقيلة وشديدة على الطالب، ويعطي عبورها مؤشراً أوّلياً على قدرة الطالب، واستعداده اللاحق على تجاوز ما بعدها من مراحل.. كان عدد غير قليل من الطلاب، يتسربون أو يهربون خلال فترة الاستجداد، عندما لا يستطيعون إتمامها بسبب شدّتها وغلظتها وضغوطها. كان يتم قبول عدد أكبر مما يتعين قبوله في الدفعة، أو بالأحرى على نحو يزيد عمّا هو مطلوب، ثم تتم التصفية ويتناقص العدد حتى يصل إلى العدد المطلوب.. كانت نظرية البقاء للأقوى فاعلة خلال مرحلة الاستجداد، وكانت تلك المرحلة هي الأصعب خلال العامين الدراسيين، وكان السؤال المُلح أمام الطالب خلال فترة الاستجداد هو: هل أستطيع إكمال فترة ال 45 يوماً أم لا ؟؟ كانت فترة الاستجداد علينا عصيبة ومرهقة جداً.. مثقلة بالحزم والشدة والصرامة.. عقوبات شديدة لأبسط وأتفه سبب أو خطأ ترتكبه، بل أحيانا يصل إلى الحد الذي لا تستطع أن تدرك ما بدر منك من خطاء.. كنت أشعر أن من يتخذون تلك العقوبات يقصدون التطفيش لا أكثر، وأحيانا أظن وكأنهم يمارسون الانتقام والتشفي في آن، وفي أحايين أخرى أشعر أن من يتخذون بعض تلك العقوبات علينا، مرضى بالسادية وعُقد النقص الثقيلة على أنفسهم وعلى غيرهم. فترة الاستجداد في الكلية هي المرحلة الأكثر صعوبة وتستدعي من الطالب كثيراً من الانضباط والجلَد.. وهي الخطوة الأولى التي تنقلك من رجل مدني إلى رجل عسكري مختلف الطباع. مرحلة الاستجداد هي محك حقيقي واختبار مضن يتحول خلالها الطالب من الحياة المدنية إلى الحياة العسكرية بصرامتها وضوابطها… مرحلة "الضبط والربط العسكري". * * * كنت أحس أن الملابس العسكرية النظامية ثقيلة جداً، وتضايقني عند التدريب خاصة مع فصل الصيف الطويل والشاق.. وبعد فترة الاستجداد كان يتاح لنا الخروج يوماً واحداً في الأسبوع . حالما أخرج من حرم الكلية بملابسي المدنية كنت أشعر بحرية كبيرة لا تضاهى، كشعور أسير تحرر من قيوده الثقيلة التي ظلت قدماه ترسفان بها طويلاً.. أحس أنني خفيف الوزن كعصفور.. أشعر بلياقة ورشاقة وخفة وزن لم أكن أشعر بها من قبل.. أخرج من عالم ضاغط إلى عالم حر ومريح.. خروجي من الكلية إلى المدينة والناس، يجلب لي الشعور بالسعادة الغامرة. كنّا إذا خلعنا ملابسنا الثقيلة بعد ساعات طوال في الكلية نلبس ثياب الرياضة الخفيفة بقية اليوم وهي عبارة عن (فانلّة) بيضاء وسروال قصير أزرق.. كنت أشعر أن ذلك اللباس القصير عورة ولا يليق، ولكن مع مضي الأيام اعتدتُ عليه، وكنت أحبذها على الملابس الثقيلة التي أُلزم على ارتدائها لساعات طوال في أوقات النهار. كنت بطبيعتي منزوياً وخجولاً.. وكانت أكثر الأوقات إحراجاً لي هي تلك الفترة الصباحية التي نغتسل فيها فجر كل يوم، وأحياناً نكررها عند الظهيرة أيضاً، خصوصاً في فصل الصيف.. كانت حمامات سكن الطلاب مصممة دون أبواب وزائد على ذلك كانت متقابلة، وكل شخص يغتسل يشاهد الآخر عارياً أمامه، وكان هذا الحال يضايقني كثيراً، وأشعر أنه يخدش حيائي بسكين، ويسبب لي كثيراً من الخجل الذي كان يبدو لي لا يُحتمل. أنا وصديقي الطيب في مدرسة البروليتاريا وثبنا يوماً من سطح أحد أبنية القسم الداخلي التي كانت ماتزال غير مأهولة وجاهزة.. بدأ صديقي بالقفز، وأثناء القفز رفع الريح سترته، فبانت عورته.. كان الإحراج عليه شديداً، وحمرة الخجل الأشد على وجهه كان يخالطها السواد، وتحتاج لمرور بعض الوقت لتتلاشى، وربما ظلت الصورة عالقة في الذهن رغماً عنّا بعض الوقت، ونحن نحاول أن نتجاوزها ولا نريد تذكّرها.. ربما يوماً هاجس جاس في مخيلتي، وجعلني أتخيل غسلي بعد موتي من قبل غاسل الموتى.. شعرتُ بالعيب وعار العورة، وغصتُ بالحياء رغم افتراض أنني ميت لا وعي لديّ ولا إحساس. ونحن بهذه الدرجة من وعي العيب كنت أسأل: كيف يمكن أن نغتسل وكل العورة بادية للعيان؟! كنت أرى الأمر عقبة كأداء أغالبها بصعوبة جمة وحياء كثيف.. إنها أكبر من تجربة معاينة وفحص الطبيب التي مررتُ بها. ولكن ما أمر به صرتُ فيه كحال ذلك الذي ورد في قول المتنبي: "انا الغريق فما خوفي من البلل" انعدام الخيار وتكرار الفعل وتعوده جعل الأمر عادياً ومعتاداً، واكتشفت معه أن العورة تسكن الوعي أكثر من أي مكان آخر. تعايشنا مع الأمر الواقع، وصرنا معتادين الحال، بعد أن كنت أراه مستحيلاً، أو أخاله أكبر من المستحيل.. ومن هذا عرفتُ ملياً أن المرء على بيئته ووسطه وما يعتاد عليه.. بإمكانه الانتقال والتكيف مع الوسط الذي يعيش فيه. وفي هذا الصدد قرأت لأحد العرب شهادة مماثلة أو مقاربة جاء فيها: "في السنوات الأربع التي أمضيتها في برلين أصبحت أكثر تصالحاً مع التعري مقارنة بالماضي.. ففي ألمانيا يُعد التجرد من الملابس أمراً معتاداً في بعض المواقف اليومية. فقد اعتدت الآن على الذهاب لحمامات الساونا، التي لا يرتدي روادها أي ملابس، والغطس في حمامات السباحة، حيث يسبح الناس عراة كما ولدتهم أمهاتهم". * * * اليوم يتم التعاطي مع التعرّي في وجه منه من قبل بعضهم باعتباره وسيلة احتجاجية تحمل في جوهرها رفضاً لواقع ما مُكرّس بالإكراه والسلطة، وتمرداً صادماً على المجتمع ومنظومة تصوراته ومعتقداته الراسخة، وكسراً للتابوهات والصنمية والسلطة الغارقة في الأبوية، وخروجاً على النظام العام، وعلى أوصياء الدين والأوصياء على أخلاق المجتمع. هذا النوع من الاحتجاج جرى استخدامه كتعبير صارخ عن السخط الشديد لمن يقوم به، واستخدام الصدمة لإيصال المطالب، ورسالة احتجاج مستفزة ومثيرة للانتباه، تستدعي الاهتمام وتجلب الفضول، والتعريف بأسباب ما يجري الاحتجاج بشأنه. ربما فكرتُ يوماً على هذا النحو حالما طالني الظلم في مجلس النواب وخارجه، بل وكدت أشرع في تنفيذه أكثر من مرة في قاعة المجلس، وأكثر منه هددتُ يوماً أنني سأحرق نفسي في قاعة المجلس أو ساحته.. والمشترك بين الفعلين أن كليهما احتجاج صادم، وكلفتهما عالية في مجتمع محافظ جداً، لا يتحمل الأول، فيما يعتقد بكفر الثاني الذي يرى أن فعل صاحبه سيذهب به إلى جهنّم، وكلاهما يجرّمهما القانون النافذ. لقد راعني وفاجأني ما حدث لذلك الإنسان النبيل منيف الزبيري الذي رأيته وقد شرع في إحراق نفسه متضامنا مع جرحى الاحتجاجات السلمية، ومحتجاً على عدم تنفيذ الحكم الإداري الواجب تنفيذه، والذي يقضي بإلزام الحكومة بعلاج عدد من الجرحى، وتحمُّلها نفقات سفرهم وعلاجهم وإقامتهم أثناء فترة العلاج في الخارج.. حدث هذا حالما كنّا ندخل على الأرجح الأسبوع الثاني من اعتصامنا وإضرابنا عن الطعام أمام مجلس الوزراء بصنعاء مستهل العام 2013. وفي تاريخ لاحق شرعتُ بالتعرّي محتجاً في قاعة مجلس نواب صنعاء أثناء "سلطة الحوثيين" وبحضور حكومتهم، غير أن بعض النواب هرعوا وحالوا دون إكمال ما بدأته، وانتزعتُ لحظتها حقي في الكلام الذي لطالما صادروه. حدث هذا قبل أن أعرف بوجود سابقة من هذا القبيل لجأ إليها "أنطونيو غرسيا" أحد أعضاء مجلس النواب المكسيكي ذو التوجه اليساري احتجاجاً على خصصة القطاع العام والذي اعتبره النائب وسيلة لنهب المال العام، وشبهه بنوع من "التعرية" للمكسيك، وعلى الرغم أن هذا الاحتجاج لم يثنِ الحكومة والمجلس من تمريره وشرعنته إلا أنه وجد من رآه فعلاً احتجاجياً شجاعاً وتاريخياً ليس فقط في تاريخ البرلمان المكسيكي، بل وتاريخ برلمانات العالم. * * * تاريخيا تذكر المصادر أن أول من استخدم التعري كوسيلة احتجاج هي امرأة بريطانية اسمها "الليدي غوديفا" (1040 – 1070) عندما قامت بركوب صهوة حصانها عارية في إحدى المدن البريطانية، مطالبة زوجها وهو حاكم المدينة بتخفيض الضرائب عن سكانها. أما اليوم فصار التعرّي أسلوباً احتجاجياً مُستخدماً من قبل محتجين في أكثر من بلد، وذلك في إطار الاحتجاج العالي والشديد في مناهضة الحروب، والمطالبة بوقفها، ودعم بعض القضايا المندرجة في إطار حقوق الإنسان. هذا النوع من الاحتجاج تم الاعتراف به من قبل بعض البلدان، وإدراجه في إطار حق التعبير، و وفرت له بعض الحماية القانونية والقضائية، ومن تلك البلدان على سبيل المثال فرنسا، حيث قضت محكمة النقض الفرنسية بتبرئة الناشطة الأوكرانية "يانا زدانوفا" من تهمة "التعرّي الجنسي" واعتبرت سلوكها جزءاً من احتجاج سياسي وقالت: "إن تجريمها سيشكل تدخلاً غير متناسب في ممارسة حرية التعبير". ومن وقائع هذا النوع من الاحتجاج نذكر ما أقدمت عليه الفنانة التشكيلية السورية هالة الفيصل ابنة الشيوعي المنحدر من أسرة محافظة، والوزير في الستينيات واصل الفيصل.. "هالة" أم الست لغات، والممثلة السينمائية، والفنانة التشكيلية التي طافت بمعارضها التعبيرية في عواصم عربية وعالمية عديدة، وجسدت في بعض لوحاتها احتجاجها على قمع الجسد العربي، وفي لوحات أخرى جسّدت الأم العراقية التي فقدت أبناءها. "هالة" التي أرادت هذه المرّة بالتعرّي أن توصل رسالتها الاحتجاجية الصارخة ضد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، من ساحة «واشنطن سكوير بارك» عندما تعرّت على نحو كامل وكتبت على ظهرها باللون الأحمر "أوقفوا الحرب" ووضعت يديها فوق رأسها وطافت في الساحة. ما أقدمت عليه "هالة" هو فعل أستهجنه البعض ووصفوه بقلة الحياء، بل والمتعرّي من الأخلاق، وفي المقابل أعتبره البعض فعل شجاع من مناضلة جسورة، وقالوا إنما العار هو السكوت على الاحتلال والتعامل مع المحتلين، فيما علّقت هي: «آمل ألّا يساء فهمي وبشكل خاص من جانب الناس المتديّنين، فالله ضد الحرب». وأضافت « ما يحصل فوق المعقول، والدم الذي يهدر كل يوم، والتاريخ يدمر، وهذا لا يعود أبدا». وربما انطبق عليها في احتجاجها قول الشاعر بمناسبة مماثلة: "ما كانت الحسناء ترفع سترها لو أن في هذه الجموع رجالاً" هناك أيضاً حركة "فيمن" النسائية التي مارست هذا النوع من الاحتجاج عن طريق التعري، والتي نشأت في أوكرانيا للاحتجاج على التجارة بالفتيات الأوكرانيات، والاستغلال الجنسي لهن، ودفعهن لامتهان الدعارة. ولم ينحصر مثل هذا النوع من الاحتجاج المتعرّي على بعض البلدان الغربية، بل وكان للشرق أيضاً حضوره فيه؛ على سبيل المثال لا الحصر تعرّي النساء في شمال شرق الهند عام 2004، احتجاجا على قيام الجيش باغتصاب النساء. * * * وفي اليمن رأينا في مسيرة الحياة وبعدها بعض الاحتجاجات التي أخذت شكل العري الجزئي أو النصفي من قبل بعض الثوار الشباب المتأججين بأحلامهم.. كما شاهدنا أو قرأنا عن بعض الاحتجاجات الفردية والخجولة، التي قامت به بعض النساء هنا أو هناك دون أن يتجاوز ذلك الفعل إحراق ما على الرأس، والوجه من قطع القماش، ولكنه كان فعلاً يعبّر عن احتجاج بالغ وصارخ وسط مجتمع محافظ ومتشدد في نظرته للمرأة إلى الحد الذي يعتبر حتّى صوتها عورة. وفي هذا العهد المظلم والحرب الدائرة ضيّقت جماعات الإسلام السياسي هنا وهناك على حريات المواطنين، بل وحاولت فرض توجهاتها ورؤاها على حياة وتفاصيل المجتمع، وذهب بعض رجالها للتضييق على الحريات عموماً وعلى حقوق المرأة بوجه خاص. ومن مظاهر ما جرى التشدد حياله منع كشف شعر رأس المرأة، وفرض الحجاب، ومنع الاختلاط، والفصل بين الجنسين، ومهاجمة أو مداهمة وإغلاق عدد من محلات الكوافير والمطاعم، والمحلات التجارية التي تبيع أحزمة وأربطة الخصر، وطمس وتشويه الرسومات والإعلانات على واجهة المحلات التجارية التي تظهر فيها شعر رأس المرأة وأطراف جسم المرأة عارياً، بل وطالت المصادرات السلع التي عليها ملصقات ما يصنفه المتشددون بالمنافية للإسلام. كما طال التنكيل العديد من الفنانين وتمت مداهمة بعض صالات الأعراس والاحتفالات في المدارس، وذهب التشدد والتوجس إلى تصنيف ما تم استهدافه بأنه يندرج في إطار الحرب الناعمة والموجهة. * * * تلك التفاصيل الصغيرة تم اعتبارها من قبل بعض النافذين والمتزمتين المُحبَطين في الجماعة مفسدة كبيرة وعظيمة، بل وأرجعوا إليها سبب فشلهم وإخفاقاتهم وتأخرهم في إحراز النصر في هذه الحرب التي نعيش أوارها وتداعياتها للسنة السابعة. اليوم صار كل شيء يتعرّى حتّى من ورقة التوت.. تعرّت أجندات الحرب.. وتعرّى معها ما يجري في الحرب من ارتكاب الفظائع والبشاعات، تعرّت الأنظمة والجماعات وسلطات الأمر الواقع هنا أو هناك. تعرّى تجار الحروب، وبائعو الأوطان، وتجار السوق السوداء، والمتاجرون بأقوات الناس، والمستولون على رواتب وحقوق الموظفين والمتقاعدين والمساعدات الإنسانية.. تعرّى النهابون والفاسدون والتافهون. إنه تعرٍ لا سابق له.. وكان يكفي هذا التعري لتبدل الحال أو انقلابه رأساً على عقب.. غير أن شيئاً من هذا لم يحدث، وقد طالت هذه الحرب بآمادها وأثقالها.. لقد باتت مجتمعاتنا خاضعة وخانعة، ومستكينة ومتعايشة مع كل هذا العري، والتعري المرعب، وفي المقابل وما يندى له الجبين إنها لم تستطع التعايش مع امرأة كاشفة خصلة من شعرها في الشارع أو في مكان عام. ولكم أن تتصوروا أن رجلاً أو امرأة خرجت إلى التحرير متعرية ومحتجة على الحرب أو الجوع أو قطع الرواتب ماذا سيحدث..؟!! لا أظنها ولا أظنه يحيا بعدها يوماً أو ساعة، ولن تشفع لك مقولة علي "الجوع كافر".. أما "هالة" المتعرية احتجاجاً في وسط أمريكا "الملعونة" فتم توقيفها لمدة ساعة لدى الشرطة الأمريكية، ثم تم اطلاق سراحها. في اليمن أن تتعرّى احتجاجاً فذلك الكفر كله، ولن يقبل لك فيه عذر أو قول أو شفاعة.. أما أن تموت من الجوع فذلك شأنك حتّى وإن هلك الشعب كله حرباً وجوعاً، فهو الله وهو قدرك أما السلطة فشأنها آخر. وقد قال الشاعر: والجوع يمشي عاريا بين الجميع ولا يلام والنفط يملأ أرضنا والناس تبحث عن طعام * * *