كشف قاضٍ في محكمة شرق إب، عن واقعة احتيال يتعرض لها المواطنون باسم عدد من القضاة، من خلال مطالبتهم بمبالغ مالية تُنسب زورًا إليهم بعد كل جلسة قضائية. وأوضح القاضي عمر عبد الغني الهمداني، أنه اكتشف هذه الممارسات أثناء تواجده في أحد المستشفيات لمعالجة طفلته، حيث قالت مواطنة بأنها دفعت مبالغ مالية تتراوح بين 15 و 20 ألف ريال «بحجة أنها للقاضي عمر الهمداني» بعد كل جلسة. وزاد من صدمة القاضي، أن أحد الأطباء نفسه قال له: «والله في كل جلسة يطلبون مني عشرين أو ثلاثين ألف للقاضي» ما دفع القاضي إلى التأكيد على أن هذه الظاهرة أصبحت «أخطر من مجرد سمسرة»، وأنها «شبكة تقوم على استغلال الخائف والطامع معًا». وقال القاضي، إن كلمات المرأة كشفت له «جُرحاً آخر لا يقل ألمًا عن جرح طفلته»، مؤكداً أنّ هناك من يستغل جهل الناس وخوفهم لابتزازهم، واصفًا إياهم ب«اللصوص الذين يتخفّون خلف عباءة القضاء». ولفت القاضي، أنه وصل إلى مستشفى جبلة بلا نقود، واضطر إلى الاستدانة من زملائه لتغطية تكاليف الفحوصات الأولية، قبل أن يُفاجأ بأن العملية المستعجلة تحتاج إلى مبلغ قدرة 15 ألف ريال يمني، وهو مبلغ لم يكن يملكه في تلك اللحظة. وتابع القاضي، : «أنه لم يكن في جيبه ريال، وحاول رهن مسدسه الشخصي فلم يقبلوا... ما اضطره الى الاستعانة بأحد الزملاء لإقراضه مبلغ خمسين ألف من قيمة إيجار زميله ». ودعا القاضي المواطنين إلى الإبلاغ عن أي مطالبات مالية تُقدَّم باسم القضاة، مشددًا على أن القضاة لا يستلمون أي مبالغ من المتقاضين، وأن أي حكم يثبت صدوره نتيجة رشوة يعدّ منعدمًا وقابلًا للإلغاء قانونًا، لأن أي قضاء مبني على فساد يُعد معدوماً. وشدد على أن السكوت عن الرشوة جريمة بحق العدالة، وأن مواجهة هذا السلوك لا تتم إلا بتعاون المتقاضين ووعيهم بحقوقهم. و أكد القاضي، عزمه على ملاحقة «اللصوص الذين يتاجرون باسم القضاء»، مشيرًا إلى أن هذه الظاهرة أصبحت مرضاً اجتماعياً يتطلب تفعيل الرقابة والشفافية داخل المحاكم. وطالب بتكثيف الجهود لمكافحة السمسرة والابتزاز داخل أروقة المحاكم، مؤكدًا أن معالجة هذه الظاهرة تتطلب تعاونًا مجتمعيًا ورقابة فاعلة لضمان نزاهة العمل القضائي. و يرى مختصون في القانون أن ما كشف عنه القاضي يمثل اعترافًا نادرًا بمشكلة السمسرة حول المحاكم، وهي ظاهرة يعاني منها القضاء اليمني منذ سنوات. ويرى قانونيون، أن نشر مثل هذه الوقائع على الملأ يمثل خطوة جريئة لإعادة الثقة بالقضاء، وإشارة واضحة إلى أن الفساد الحقيقي لا يكون داخل القاضي، وإنما حوله. وأكدوا إنَّ ما تكشفه هذه الواقعة لا يقتصر على مأساة مواطنين يُستغلّون باسم القضاء، بل يُظهر – في جانبٍ آخر – حاجة القاضي نفسه إلى مظلة تحمي كرامته الإنسانية وتعينه على الثبات في طريق النزاهة. فالقاضي، مهما علا مقامه، يبقى إنسانًا يعيش ظروفًا معيشية وصحية قد تعصف بأسرته في لحظة طارئة، ولا يليق بعدالة دولةٍ أن يقف أحد قضاتها في غرفة طوارئ عاجزًا عن دفع تكلفة علاج طفلته، وإن توفير تأمين صحي شامل للقضاة، وضمان حدٍّ كريم من الامتيازات الأساسية التي تحفظ حياتهم وكرامتهم، ليس ترفًا إداريًا ولا منحة مهنية، بل هو جزء أصيل من إصلاح القضاء وحماية سير العدالة. فالقاضي المطمئن على أسرته وصحته هو الأقدر على مقاومة الإغراءات والتهديدات، والأصلب في وجه شبكات السمسرة والفساد، والأبعد عن الضغوط التي قد تضعف استقلاله. واكدوا ان صون كرامة القاضي النزيه هو صون لهيبة القضاء كله، وإعانته على سلوك طريق الاستقامة والعدل هو واجب الدولة والمجتمع معًا، لأن القضاء القوي لا يُبنى فقط بالنصوص، بل برجالٍ لا تنحني جباههم، وببيئة تحمي نزاهتهم وتسدّ أبواب الحاجة عنهم. المصدر: بوابة القانون والقضاء