عزيزنا القارئ: كنا في العدد قبل هذا قد عرفناك بمقتطفات من حكاية المخفي القسري (علي عبده ناشر العبسي) الذي يقبع في أقبية ودهاليز الإخفاء القسري منذ أكثر من أربعين سنة أي من عهد الرئيس عبد الرحمن الأرياني. وبينما كنا نستقبل الاتصالات التي تواترت من أقارب المخفي القسري على عبده ناشر وممن يعرفونه أو كان صديقاً له حتى تجمعت لدينا أكوام من المعلومات كانت قيد التحرير وفضلنا تأجيلها تحسباً لوصول معلومات جديدة أخرى لتثري الموضوع أكثر فأكثر. نعم عزيزنا القارئ بينما نحن مشدوهون بصاعقة ظهور علي عبده ناشر العبسي بعد أكثر من أربعين عاماً من الإخفاء الظالم وفجأة وجدنا أنفسنا أمام نافذة افتتحت وأطلتنا على منطقة الأعبوس التابعة لمديرية حيفان بمحافظة تعز فإذا بنا أمام منجم كبير ظل النظام السابق يمارس غواياته وهواياته في الاستبداد السياسي عبره. نقول منجم منه يقتنص ويستخرج النظام السابق كنوزاً هي أغلى من كنوز الأرض جميعها لأنها ليست من الذهب والفضة والمعادن الثمينة وإنما معادن من البشر النادر ظلت الأنظمة المتعاقبة على حكم الجمهورية العربية اليمنية سابقاً وبعدها نظام حكم ما بعد 1994م تتخطف تلك الكنوز البشرية من أبناء منطقة الأعبوس تارة في المعتقلات السياسية، وتجريعها صنوف أشكال التعذيب والإرهاب السياسي، وتارة ترمي بها في أتون ودياجير الإخفاء القسري. ربما كان قدر منطقة الأعبوس أن تدفع غالياُ فاتورة وضريبة تفتح وعيها المبكر الذي سبق معظم المناطق اليمنية، فكانت أول منطقة ريفية تبني مدرسة في الريف، وأول مكان ريفي استضاف عدداً من المؤتمرات التاريخية أحدها عقد بحضور (قحطان الشعبي، وفيصل عبد اللطيف، وفتاح ...... وكل قيادات الصف الأول من الجبهة القومية) وخرج بالاتفاق على الكفاح المسلح ضد بريطانيا، والمؤتمر الأخر أعلن فيه عن تأسيس أول حزب يساري في اليمن هو الحزب الديمقراطي الثوري اليمني ، وقدمت الأعبوس خيرة ما تملك من أموال وأبناء في سبيل انتصار الإرادة اليمنية بثورتي سبتمبر واكتوبر، ومدت النظامين بخيرة عقول اليمن المؤهلة عند تأسيس الدولتين ، وفي دحر فلول الملكية عن صنعاء. وكأن تلك الأدوار الكبيرة التي أسهمت بها هذه المنطقة الصغيرة تحولت إلى نقمة ضدها، ويجب أن تدفع قيمة فواتيرها. ومن تلك الفواتير ... فاتورة إرسال أول حملة عسكرية جمهورية ترسل إلى عزلة في محافظة تعز حملة حاصرت بعض قراها قرابة شهر كامل بداية السبعينيات. ومن تلك الفواتير... فاتورة محاربة الأعبوس من كل الخدمات الواجبة على الدولة حتى أن معظم الخدمات القائمة أهلية وتحققت بفعل تظافر أبنائها ودعم تجارها المشهورين. ومن تلك الفواتير ... فواتير الملاحقة والمراقبة لكل أبناء الأعبوس في كل مدن اليمن، والتفتيش في عقولهم وهم يتقدمون لوظيفة ما أو لبعثة دراسية أو غيرها. ومن تلك الفواتير ... فواتير الاعتقالات السياسية، والاضطهاد ومحاربة أبناء الأعبوس في وظائفهم وحتى أعمالهم الخاصة التي أدت إلى إفلاس كثيرين منهم من مخابز، واستديو هات، وشركات ومصانع ................ الخ. إن تلك الممارسات ليست هي وحدها فحسب الفواتير التي يجب على الأعبوس أن تدفعها حتى صارت أشبه بمنجم خصب تمارس داخله أجهزة الحكم هواياتها العدوانية والحاقدة. ليست وحدها فحسب فقد كان الإخفاء القسري مظهراً من مظاهر تلك الممارسات، ويمثل بحد ذاته منجماً خصبا لبطش النظام الحاكم. أما ما يميز المخفيين قسرياً من منطقة الأعبوس عن غيرهم: أن المخفيين قسريا ليسوا فقط أولئك الذين ارتسمت صورهم فوق جدران واسوار شوارع العاصمة، فثمة أخرون مخفيون قسرياُ يسبقون عهد على عبد الله صالح نحو (علي عبده ناشر العبسي) الذي تناولناه في العدد السابق، وثمة مخفيون قسرياً وما أكثرهم في عهده الرئيس المقلوع، والباعث للاستغراب ظهور (عبسي) مؤخراً يقبع في جحيم الإخفاء القسري منذ عام 1994. نعم ... نؤكد أنه ليس (....) فمازال ثمة أخرون يقبعون وراء شموس الأيام لا يعرفون عدد الأيام التي انقرضت عليهم وهم خلف جُدر طواغيت اليمن المتعاقبين يسقون بإراداتهم الفولاذية عزائم الصبر، ومقومات التوق إلى الحياة النبيلة التي يحلمونها تكن حياة لهذا الشعب. عزيزنا القارئ ... معذرة إن كنا قد أسهبنا في هذه المقدمة. إن هذا الإسهاب إنما هو حالة قسرية أجبرتنا على إعطاء صورة أو لمحة سريعة ستجيبك على سؤال: لماذا كان أبناء الأعبوس بالذات هم دائماً ضحايا الاعتقالات والإخفاء القسري (ربما) أكثر من غيرهم؟ أما العبسي الذي تكتسب حكايته خصوصية هي في غاية الأهمية لكونها طالت شخصية مدنية مهمة في امكانياتها العلمية، وفي فترة لم يكن يتوقع أن يكون ثمة مخفيون فيها. هل ستصدق أنه يوجد مخفيون قسرياً على ذمة حرب صيف 94م حتى الأن؟ ليس في مقدورك إلا ان تصدق ذلك. هاهي ذي الأيام تكشف لنا عن أسفارها. نقلب في صفحاتها فإذا بنا أمام حكايات جديدة مكتملة عناصرها الروائية فقط تحتاج لقلم عبقري يقوم بتركيب أجزائها داخل نص روائي، ومخرج عالمي يعيد صناعتها في فيلم سينمائي مضمون فوزه بجوائز عالمية. الرواية عنوانها: عبد المؤمن ومثلما تخيلنا في العدد المنصرم مشاهد من حكاية (علي عبده ناشر) تعال نتخيل مقتطفات سريعة من المشاهد الحقيقية الجديدة لحكاية عبد المؤمن.. ولكن قبل عرض هذه المشاهد نقف قليلاً نستمع الى ما قاله ابنه رافد للمستقلة حيث قال لدي شعوراً اني سألتقي بأبي يوماً .. رامي إلى الآن ليس لديه شيء مؤكد عن مصير والده ويطالب قبل التفكير بأي حلول لجبر الضرر أن يتم الكشف عن مصير والده وبقية المختفين قسرياً وظروف اختفائهم.. هو يتساءل هل والده مسجون في الأمن السياسي ولماذا يسجن شخص مثل والده كرس حياته لخدمة وطنه من خلال العمل والبحث في الوسائل المساعدة لتطوير الزراعة في اليمن، كما تساءل رافد اذا كان هناك مصير آخر لوالده فلماذا يتم اخفاء هذا المصير؟! ومن أجل الكشف عن أسرار هذا الملف الحزين انضم رافد الى منظمة المخفيين قسرياً مشهد(1) ولد عبد المؤمن في قرية التبيعة بالأعبوس عام 1952 ودرس في المعلامة كأي واحد من أبناء جيل تلك الفترة والتحق بالمدارس التي تأسست حينها بالأعبوس قبل انتقاله لمدينة عدن لمعاونة والده الذي كان يمتلك مطعماً فيها. وفي عام 1975م سافر الى موسكوا والتحق بكلية الزراعة. بعد أن تحصل على منحة دراسية إلى جمهورية الاتحاد السوفيتي سابقاً في مجال الهندسة الزراعية، ثم عاد من بعثته في عام 1981 حاملاً مؤهلاً أكاديمي في الهندسة الزراعية وتزوج من أم رافد بعد أن اختارتها له والدته ولم يلبث قليلاً من الوقت حتى يوزع ضمن المهندسين المتخصصين في مجال الهندسة الزراعية للإشراف على سير عمل المشاريع الزراعية التابعة للدولة في محافظة أبين. وهناك سكن وأقام في منزل خاص به يقع في منطقة (الكود) مستقراً مع أسرته في محافظة أبين مدة لا باس بها. ومع مرور الوقت أخذت ملامح حرب 94م تتصاعد، وشبح البارود يحلق في فضاءات المدن الجنوبية فيقلق المهندس (عبد المؤمن عبده نعمان العبسي) على أبنائه الثلاثة (رافد، رنا، رانية) ويخاف على زوجته التي كانت تمر بحالة حمل. مشهد(2) إزاء الوضع الذي تأكد منه أن الحرب على وشك أن تقع، وأن المسألة فقط هي مسألة توقيت اندلاعها قام بنقل أسرته من أبين إلى محافظة تعز إلى قرية (السبعة) التابعة للأعبوس حتى يكونوا في مأمن من نيران الحرب الوشيكة الانفجار، وكيما تعتني أمه بزوجته عند ولادتها. وقبيل مغادرة الأسرة أبين يوصي زوجته أن تسمي المولود القادم إن جاء ذكراً ب(راني). مشهد(4) اندلعت حرب صيف 94م ... وبينما كانت القوات الشمالية تدخل مدينة عدن يتصل (عبد المؤمن) إلى القرية بأسرته يطمئنها أنه بخير، وأنه في طريقه لزيارتهم بالقرية؟ وهنا يتوقف الزمن فعبد المؤمن خرج لزيارة أشقائه في عدن والاطمئنان عليهم بعد انتهاء وطيس المعركة وأبلغهم أنه سوف يعود الى ابين لاستلام راتبه ثم يسافر الى القرية وفعلاً عاد عبد المؤمن الى أبين واستلم راتب شهرين وحسب ما ذكر رامي للصحيفة أن زملاء والده شاهدوه وهو يغادر منزله حاملاً حقيبته ليختفي بعدها عبد المؤمن وتتبعثر كل الآثار الدالة على وجوده. وخلال الفترة القصيرة التي انقطع فيها عبد المؤمن عن أسرته أثناء الحرب كانت قد أنجبت زوجته مولودها الرابع وأسمته بالاسم الذي اختاره وأوصاها أن تسميه به قبيل مغادرته القرية (راني). ظلت زوجته وأمه وأولاده ينتظرون أوان وصوله كما حدد لهم وهو يوم 17 يوليو 1994 ومنذ ذلك اليوم وهم ينتظرون. نعم منذ ذلك اليوم وهم ينتظرون. الفارق هو أن أبويه لم يعودا ينتظرانه فقد غادرا أيامنا وقلباهما يعتصران من حسرة الفراق المجهول. مشهد(4) على إثر الانقطاع المجهول قامت الزوجة بتغيير اسم المولود من (راني) إلى (نديم) ... ليكون هذا المولود (نديمها) في ليال انتظار الحبيب المفقود. لم تبقى اسرة (عبد المؤمن) صامتة فقد أخذت تطوف الوطن باحثة عنه لم تترك قسماً أو مستشفى إلاّ وبحثت عنه بحثت عنه في مكان عمله.... في عدن، وبقية المحافظاتاليمنية ... بحثوا عنه في المستشفيات ... لا يوجد اسم في سجلاتها اسمه عبد المؤمن عبده نعمان العبسي ... بحثوا في أقسام البوليس ومديريات الأمن .... ليس ثمة أثر لاسمه. حتى إدارات وأجهزة الأمن السياسي سألونها عنه: فلم تجد ما يدل على أن لدى هذا الجهاز معلومات عن عبد المؤمن عبده نعمان العبسي. وليت مآسي الأسرة توقفت عند حدود معاناة البحث، والتعب، والفقدان الذي ذاب فيه رجلها كالملح في الماء إذ وجدت نفسها أمام مصير مجهول لا عناوين لمستقبلها خاصة وهذا هو الأغرب أن جهة العمل اعتبرت المهندس (عبد المؤمن عبده نعمان العبسي) منقطعاً عن العمل وأوقفت راتبه الشهري لعدة أشهر، وهددت بمصادرة منزله الذي سبق أن صُرف له في منطقة الكود بأبين، وطلبت من أسرته إثبات وفاته بشهادة الوفاة.كما أن راتب عبد المؤمن لم تشمله أي زيادة في حين زملاؤه وصلت رواتبهم الى التسعين الألف أما هو فلم يرتفع راتبه الى الخمسة والاربعين الألف إلاّ مؤخراً وبعد متابعة مضنية. مشهد(5) لم تنهزم أسرة المهندس (عبد المؤمن عبده نعمان العبسي)، ولم تستسلم لحالات القهر والظلم والغبن والفقدان المرير. ناضلت زوجته طيلة السنوات (العشرين) سنة الماضية نضالاً شاقاً تستحق عليه لقبين ... لقب الزوجة المخلصة التي لم تيئسها سنوات العذاب المر من أجل أن ترى زوجها يعود فروحها تقول لها سيعود عبد المؤمن ذات يوم. ولقب الأم المثالية في تربية أبنائها الذين عوضتهم عن فقدان أبيهم، فلم تجعلهم ييأسون من الحياة وإنما جعلتهم يقهرونها وينتصرون على كل ظروفها ويتخرجون ثلاثة منهم من الجامعات والرابع في طريقه للالتحاق بالجامعة. مشهد(6) بشائر غير مؤكدة.. قال نجل المفقود أنهم تلقوها من دكتور كان يعمل في الأمن السياسي أفاد أن عبد المؤمن موجود وأنه لايزال على قيد الحياة في زنازين برازخ الإخفاءات القسرية وقال لأفراد من منطقة الأعبوس أن بطل هذه الرواية التي تقرأ سطورها عزيزنا القارئ مازال حياً.. ونحن نقول إن شاء الله يكون فعلاً حياً. مشهد(7) قبل بارقة الأمل هذه كان رامي قد حاول تقديم مذكرة الى ادارة جهاز الأمن السياسي يطالب فيها بمعرفة مصير والده لكن لم يأته جواب كغيره من أبناء المخفيين قسراً . المشهد (المفقود) أخيراً: عزيزنا القارئ ... ثمة مشهد مفقود من بين المشاهد السابقة ... يا ترى ما هو هذا المشهد؟ عليك أنت أن تتخيل هذا المشهد ... إنه مشهد المهندس (عبد المؤمن عبده نعمان العبسي) المختفي قسرياً منذ لحظة اعتقاله مروراً بالتحقيقات التي تمت معه ليل نهار، والزنازين التي زارها ، وصولاً إلى هذه اللحظة إن كان لا يزال حياً حسب ما تأمل اسرته ونأمل جميعاً.. عبد المؤمن ان كان حياً فهو لا يعلم أن أبويه قد توفيا، أما زوجته الحبيبة ماتزال بكل اليقين مؤمنة بأنه على قيد الحياة، ومثلها أبناءه الذين تخرجوا من الجامعات، .....الخ. عليك أيها القارئ محاولة أن تعيش في وعيك وقلبك 20سنة في زنازين تحت الأرض. فثمة أشخاص يعيشون الأن تلك الثواني لحظة بلحظة في الحقيقة لا في الخيال منذ عشرين عاما، وبعضهم أكثر من أربعين عاماً. فهل رأيت أو سمعت أو قرأت ظلماً كهذا في بلد غير اليمن؟ لا تجب على هذا السؤال ... سبق وأن اجابنا عنه شاعر اليمن الأكبر عبد الله البردوني مختتمين به حكاية هذا العدد حيث يقول: غريب كل ما يجري .... وأفظع منه أن تدري؟ أما تدرين يا صنعاء .... من المستعمر السري؟