مقولة : " ايام الاسد باتت معدودة " . قالها الكثيرون منذ بداية الحرب العالمية على سوريا ، واحلى شئ في هذه المقولة انّ كل من قالها انتهى الى مزبلة التاريخ وتلاحقه الفضائح الاخلاقية والسياسية . فعلى سبيل المثال وليس الحصر الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي ووزير خارجيته كانوا من السباقين لتكرار هذه المقولة على سمعنا , فأين هما اليوم ؟ . هيلاري كلنتون وبترايوس رئيس الاركان الجيش الامريكي ليسوا افضل من ساركوزي . اما اردوغان وحكام الخليج فينتظرهم مستقبل اسوء من ساركوزي مع فضائح بجلاجل . وفي الحقيقة هم مفضوحون في الوقت الحالي فلطالما وعدونا : بالصلاة في المسجد الاموي في دمشق اكثر من مرة ومنذ سنتين تقريبا ونحن لم نراهم في دمشق . بل نرى " الشبل " ابن الاسد يصلي في المسجد الأموي ونرى جيشه يسطّر الملحمة تلو الاخرى في احباط مؤامرات : اردوغان وحمد وأل سعود اللذين ينفذون خطط الامريكان والصهاينة . التحدّي الأكبر الذي كان يتهدّد سوريا هو أن تقود أمريكا عملية غزو مباشر لسوريا على غرار ما جرى بالعراق وكذا على غرار ما جرى في ليبيا . كانت واشنطن تتمنى أن ترى بشار الأسد متدلّيا على حبل مشنقة في المرجة أو ساحة الأمويين . وكانت تعتقد أن غزو سوريا نزهة أسهل مما سبقها من أمثلة عرفتها المنطقة . ولعلهم سخروا من جواب الأسد على سؤال صحفي إذا ما كان مصيره هو : مصير حسني مبارك ، يومها قال : سوريا ليست مصر . عمليّا ، تأكّد أن بشّار كان على حقّ . وسنتان من عمر التحدّي في سوريا يؤكّد أن الذين سخروا من هذه العبارة هم خارجون عن فهم ما يجري في المنطقة . ولا زال حبل الكذب في سوريا وعلى سوريا طويل . كم كان الأمر صعبا أن تُقنع العالم بأن أبناء الجيش السوري الوطني وهم مواطنون وأبناء كل أطياف الشعب السوري يُذبحون بالسلاح الذي تقدّمه أطراف إقليمية للمجموعات المسلحة المتطرفة . ففي سوريا تشرمطت الحقائق وأصبح من الممكن القول أنّ : القاعدة إرهابيّة في أفغانستان والعراق لكنها ديمقراطيّة في سوريا . وبما أنّ أمريكا وتحت ضغط الانهيار الاقتصادي . تدرك أنّ أي مغامرة غير محسوبة ستجعلها تنهار ليس فقط كإمبراطورية بل كدولة عظمى فهي لا تضع البيض في سلّة واحدة . والصين التي تصرّ على استعمال الفيتو ضدّ التدخل في سوريا هي من ضخّت الكثير من الكتلة المالية لإنقاذ الاقتصاد العالمي والاقتصاد الأمريكي . وهذا كان يكفي ليجعل الصين التي لم تعسكر سياستها الدولية منذ عشرات السنين ، تبعث بسفينتها الحربية إلى منطقة الشرق الأوسط . حينما أدركت أمريكا ذلك فكّرت في الهروب الناعم من الورطة السورية . فلقد أدركت واشنطن أنّ الشرق الأوسط لم يعد خالصا لها . وليتها سمعت نصيحة " هينتينغتون " يوم قال بأنّ : ( أمريكا لن تستطيع أن تهيمن على العالم ( . وعليه ، كان لا بدّ أن تتراجع واشنطن قليلا ولا تظهر في واجهة الحدث السوري . فهي خبرت المعارضة في الخارج وعرفت من خلال استخباراتها أنّها ليست معارضة حقيقية . ولذا ما زال الكومبارس الإقليمي يحاول المستحيل لإقناع واشنطن بجدوى التعويل على المعارضة من خلال إعادة تشكيل فريقها المرة تلو الأخرى عبثا . واشنطن تريد أن تهرب قبل حلفائها لذا تركتهم يتناطحون أمام حقائق غامضة في المنطقة . حينما تنسحب واشنطن إلى الخلف قليلا يتقدّم ( ابن آوى ) الفرنسي للقيام بما يسمّى بالعامية بال : " بعورة " . أي قطف ما تبقى من الثمار وما بقي من أوراق مبعثرة . لكن الأثر الفرنسي في الأحداث الأخير شكّل مهزلة حقيقية . لأن فرنسا لا يمكنها أن تناطح روسياوالصين وإيران في منطقة الشرق الأوسط . ربّما نزولا عند أمر الراعي القطري الذي بات يموّن على الاقتصاد الفرنسي ، أراد أن يجاريهم في هذه اللعبة التصعيديّة الأخيرة . لكن يبقى حظّ فرنسا الاستعماري حاضرا في الأحداث السورية وإن بصورة غبيّة . ليس أغبى من فرنسا ولا عملائها في الداخل أكثر من ( صانعيها ) باستبدال علم الانتداب الفرنسي بالعلم الوطني السوري كما هو علم الجيش الحر اليوم . تحاول فرنسا الثّأر الأدبي من حركة التحرر الوطني السوري . أما الطّامّة الكبرى فحينما نصّبوا معاذ الخطيب على رأس جمهورية الضباب السورية التي لم يستطيعوا أن يظفروا بشبر واحد منها ، بينما معاذ الخطيب هو ابن لكبير عملاء الانتداب الفرنسي الذي وضعته فرنسا يومها حاكما على سوريا . نهاية المعضلة السورية كمن في جملة من النقاط منها : 1 ) التصريح الأمريكي . في حفل الترشيح الرئاسي خطب الرئيس الأمريكي أوباما أمام ناخبيه قبل أن يخاطب العالم ، بأنّه لا تدخّل بعد اليوم . 2 ) نصب بطاريات صواريخ باتريوت . قرار واشنطن بنصب بطاريات باتريوت على الحدود التركية السورية يستهدف روسيا وليس سوريا . وهذا مؤشّر على أنّنا عدنا مرة أخرى إلى مربع الحرب الباردة . فالصواريخ هنا تعني حماية القواعد الأمريكية في تركيا . وهذا ليس مطلبا تركيا كما أوحى بذلك تصريح أوردوغان ، بل هو مطلب أمريكي . ولذلك كان الجواب الروسي جاهزا حينما نصب صواريخ اسكندر وطور صواريخ أخرى قادرة على اختراق قبة ستينغر ، مما يعني استئناف لسباق صاروخي في المنطقة . في الحرب الباردة نتحدث عن صواريخ باليستية وعابرة للقارات وعن تدمير للأرض والكون ولكن في الحرب الباردة لا يكون التّدخّل في منطقة الأحلاف نزهة . إنّ صواريخ ستينغر مؤشّر على أن التدخّل بات مستحيلا في سوريا . 3 ) فوبيا السلاح الكيماوي . تدرك واشنطن أن خصومها وحدهم من يملك الرؤية ، وهي لذلك تحترمهم أكثر مما تحترم الكومبارس المتشعبط في ذيولها . لأنهم ضعاف . ولذلك تدرك أنّ سوريا تدرك أنّ الخطر الاستراتيجي لم يعد قائما بفعل توازن القوة ومناورات قوى الممانعة . وعليه ، ما تبقى في سوريا هو حكاية تنظيف للمظاهر المسلحة التي تستهدف عشرات الألوف جيدة التسليح والمدربة على حرب المدن . وهي تريد بتعبير أو بآخر أن تقول لروسيا انتبهي سأكون مضطرة أمام الرأي العام الأمريكي أن لا أسمح بأي تصرّف إبادي للمقاتلين . تعبير آخر تريد أمريكي أن تبلغ رسالة من خلال منطوق الخطاب ، مقاده : نظفوا ما شئتم وكيف شئتم لكن من دون كيماوي فهو خط أحمر . وأصل الحكاية هي خدعة للجيش السوري لمواجهة ألوف من المقاتلين الذين يتمترسون بالمدنيين . وهكذا جاءت فكرة أن تقوم بعض الطائرات بإفراغ أكياس من الطحين فوق بعض المناطق التي يختفي فيها المسلّحون . وبدأت التنسيقيات تتحدث عن الكيماوي وغيره . هذا بينما لا زال الأسد يطيل امد الحسم العسكري حماية للمدنيين . 4 ) إدراج جماعة النّصرة في قائمة الجماعات الإرهابية . لأن واشنطن كما ذكرنا تذرك أن أمد اللعبة انتهى فهي تصفّي ذمتها وتغلق مسبقا كل ملف ممكن أن تضطر إلى فتحه . ومنه علاقتها بالقاعدة . 5 ) تصاعد العمليات الانتحارية . حينما أوشكت سوريا " الافتراضية " أن تعلن عن احتفالها الكبير بنهاية نظام الأسد ، ارتفع معدّل العمليات الانتحارية العبثية . وهذا مؤشر على الفشل لا على الانتصار . فقسم هائل من القاعدة يعيش إحباطا في سوريا . ولذا ليس أمامهم إلا الانتحار ، لأن السجون العربية وغوانتانامو تنتظرهم من جديد . 6 ) مقتضى نظرية الألعاب . وواشنطن هي لاعب كبير يعرف قواعد اللعبة . بينما الكومبارس الذي يفتقر إلى معرفة كل السيناريو وطبيعة اللعبة فهو يدخل من دون فهم لقواعدها . لذلك سيبقى هؤلاء مثل الصحاف يهتفون بسقوط الأسد بينما تكون أمريكا أكملت لعبتها مع اللاعبين الكبار . وعليه ، فإن مقتضى اللعبة أن : لا تعمل واشنطن على مساعدة سوريا في التّخلّص من حالة الاستنزاف التي تخدم في نهاية المطاف المشروع الأمريكي في سوريا . فسوريا اليوم تعاقب على مواقفها القومية وعن ممانعتها وامتناعها عن تسليم القوى الفلسطينية ووضع حدّ للمقاومة . الإبقاء على الجرح مفتوحا في سوريا يخدم مصلحة من يريد إضعاف سوريا سياسيا وعسكريا . فإذا فشلوا في الإطاحة بسوريا فعلى الأقل يحاولوا إضعافها على المدى المتوسط. وفي الوقت نفسه هناك رغبة أمريكية لنوع من الاحتواء المزدوج لسوريا والقاعدة معا . إن إطالة أمد اللعبة لا يعني سقوط النظام . فوجود جيوب مسلحة في أي دولة لا يعني انهيار النظام . لكنه قد يشغلها ويخضعها للابتزاز . وفي المثال السوري ستكون هذه المقاربة قاصرة جدّا ، لأنّ لسوريا خبرة طويلة في الضّبط الأمني . وبأنها في فترة ما كانت ترعى أمنها وأمن لبنان ، واستطاعت أن تسيطر على الحرب الأهلية في لبنان. 7 ) أخير وليس آخرا ، يبدو أنّ : تداعيات الأزمة في سوريا بدأت تلقي بظلالها على الجوار . فالخليج يخشى اليوم الذي سيواجه فيه استحقاقات الربيع العربي . فهو يعيش على صفيح حامي من الاحتقانات الاجتماعية . فالثورات هناك مؤجّلة يدغدغها الريع ويسكتها إلى حين . لكنه لا ينهيها . وهمّ واشنطن أن لا يمتد الربيع العربي إلى حيث يوجد النفط . بقي القول أنّ تركيا التي تعاني من تململ الشارع التركي للإطاحة بأوردوغان وأيضا دول الخليج المتورطة في تسليح القاعدة في سوريا ، سيضطرون لإعادة الوضع الطبيعي للعلاقات إلى استحقاقات كبيرة . وهنا ليس أمام تركيا والخليج الذي لا يزال يحتفظ بعلاقات مع طهران أن يجعل طهران وسيطا لإعادة ترتيب العلاقات بين دمشق وأنقرة وكذلك بين دمشق والرياض . وليس هناك غير هذا السيناريو . وهذه قضية تتطلب بعض الوقت . لكن يبدو أنّ عملية الإعمار لسوريا سيدفع ثمنها الخليجيون . وهم لذلك سيضطرون أن يخصموا من الدعم الذي كانوا يقدّمونه لحلفائهم العرب . هذا إن قبلت سوريا العودة بالعلاقات إلى وضعها الطبيعي .