في الوقت الذي كان الرئيس السابق يستقبل بمنزله جموع المُهنِين بعيد الوحدة الرابع والعشرين، كان الرئيس هادي ما يزال منهمكا بمتابعة سير العمليات القتالية على الجبهتين الجنوبية والشمالية، فالقاعدة والحوثيون عكّروا الأجواء الاحتفالية بعيد الوحدة، فلم يهنأ الرئيس هادي ولا الشعب اليمني بالعيد ولا حتى بتلك الانتصارات التي استفاضت بذكرها وزارة الدفاع ضد عناصر القاعدة في كل من أبين وشبوة، فالاجتياح الذي نفذه القاعدة ليلة السبت الفائت على مدينة سيئونبحضرموت ونجاحه في الوصول إلى العديد من المواقع الأمنية والمقار الحكومية بما في ذلك نهبه عددا من البنوك وسقوط قتلى من الجنود الذين تمت مباغتتهم، كل ذلك أفسد فرحة هادي واليمنيين بعيد الوحدة وانتصارات الجيش في أبين وشبوة. على أن تلك الانتصارات لم يعترف بها الشيخ صالح بن فريد العولقي أحد مشايخ شبوة المعروفين، حيث وصفها بأنها حرب إعلامية كاذبة وخاسرة يقودها وزير الدفاع ومن معه بهدف استنزاف الأموال وإخلاء مستودعات الجيش من السلاح، مضيفا بأن هذه الجيوش الجرارة التي خرجت لم تحقق أي نتيجة ولا واحد في المائة من الهدف الذي خرجت من أجله!! فيما اعتبر الدكتور عبدالرحمن بافضل- رئيس الكتلة البرلمانية للإصلاح سابقا- أن الجيش اليمني يحارب قاعدة المخلوع صالح، والتي هي بالأساس- من وجهة نظره- افرادا من الجيش خصصهم المخلوع لاحتلال المحافظات الجنوبية، وقالها بعظمة لسانه، إن القاعدة ستسيطر على خمس محافظات جنوبيه، وسماها قبل أن يترك الرئاسة، بل وسلّم الأولى في عهده وهي محافظة أبين، فأخرج الحرس الجمهوري من القصر وأدخل حرسا بدلا عنهم باسم القاعدة بمباركة الولاياتالمتحدة على حد تعبيره. في سياق متصل، وفي تقريره لرصد الأحداث والضربات بدون طيار من بعد هجمات ال11 من سبتمبر وحتى نهاية 2012، قال مكتب التحقيقات الاستقصائية البريطاني عن حرب الولاياتالمتحدة وملف تنظيم القاعدة في اليمن: "خلال السنوات الممتدة من2001 إلى 2012، تم انتهاك سيادة اليمن، وقتل المئات من جنود وضباط الجيش والأمن، وتم اختراق الدولة والتدخل في سياساتها، وصبت مجمل تلك التطورات في إضعاف جهاز الدولة، بينما ظل مسلحو القاعدة أداة وضحية لهذه الحرب". ووفق رصد مكتب التحقيقات الاستقصائية البريطاني، بدأ الاتفاق على الشروع في هذه الحرب التي تتزعمها الولاياتالمتحدة الأميركية في اليمن تحت مظلة مكافحة الإرهاب، وبموافقة رسمية من الرئيس السابق، مقابل صفقة تبلغ قيمتها 400 مليون دولار وقعها مع إدارة بوش كجزء من التعاون المشترك مع الولاياتالمتحدة لإنشاء مخيم مكافحة الإرهاب في اليمن، تديره وكالة المخابرات المركزية، والقوات البحرية الأميركية والقوات الخاصة.(أنظر موقع الفجر الجديد).
موجة إرهاب دولية
بالنسبة للرئيس هادي فهذه ليست الحرب الأولى التي يخوضها ضد القاعدة في الجنوب وفي أبين تحديدا، ففي منتصف العام 2012 شن الجيش حملة عسكرية واسعة لتحرير بعض مديريات أبين وتطهيرها من القاعدة الذي كان قد أقام في بعض مدنها ما أسماها وقتذاك بالإمارات الإسلامية. انتصر الجيش- وقتها- ودحر القاعدة لكنه خسر اللواء سالم قطن قائد المنطقة العسكرية الجنوبية الذي قاد حربا حقيقية ضد القاعدة، فلقي مصرعه في تفجير انتحاري بحزام ناسف استهدف سيارته صباح يوم 18 يونيو 2012م.
وعلى الرغم من النجاحات التي حققها الجيش في حملته عام 2012 ضد القاعدة إلاّ أنه لم يتمكن من القضاء عليه وإنهاء دوره في الجنوب، بدليل أنه سرعان ما أستعاد نشاطه وعاود سيطرته مرة أخرى على أجزاء واسعة من محافظتي أبين وشبوة، كما تمدد إلى حضرموت ودخل مناطق في البيضاء، وعزز وجوده الطبيعي في مأرب، وأستطاع الضرب خارج معاقله في العاصمة وعدن والجوف. لكن كيف استطاع تنظيم القاعدة العودة بمثل هذه القوة والحيوية بعد الحرب الأولى الشاملة التي شنها الجيش عليه في معاقله؟!
في تصريح مهم للرئيس هادي قال فيه إن حوالي 70% من عناصر القاعدة الذين يقاتلون في اليمن هم أجانب، مشيرا إلى أن أستراليين وبرازيليين وهولنديين من ضمن الذين قتلوا في العمليات العسكرية الأخيرة. في حين ذكرت صحيفة التايمز البريطانية أن جهاديين بريطانيين انضموا لتنظيم القاعدة التي تقاتل القوات اليمنية، بعد أن شنت الأخيرة هجوما واسعا في جنوب البلاد. ونقلت الصحيفة عن مقيمين في محافظة شبوة في اليمن، إن بريطانيين وجزائريين ومقاتلين من الشيشان من ضمن الأجانب أصحاب اللغة العربية الركيكة يقاتلون الأن في صفوف القاعدة. وبالفعل ظهرت بعض قيادات القاعدة في اليمن تحمل أسماء الأوزبكي والشيشاني، هذا إلى جانب عشرات المقاتلين من السعودية والصومال وسوريا وبعض دول أوروبا. وليست اليمن وحدها التي صارت ملاذا للجماعات المسلحة التي تقاتل تحت رايات متعددة كالقاعدة وأنصار الشريعة وغيرها، فسوريا صارت مأوي تلك الجماعات التي يجري استقدام عناصرها من كثير من الدول العربية والأجنبية لتقاتل في صفوف الجماعات المسلحة، فقد كشف تقرير نشرته صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ21 مايو 2014 بأن أحدث تقديرات للاستخبارات الأميركية تقول إن أكثر من 100 أميركي انضموا إلى الجهاد في سوريا. ونسب التقرير إلى صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بوجود 300 فرنسي يقاتلون في شمال سوريا إلى جانب 200 من بلجيكا ومائة من هولندا وما بين 300 إلى 400 بريطاني وعشرات الألمان، وما يصل إلى 100 أميركي، إضافة إلى 15 ألف مقاتل أجنبي من 70 دولة أخرى يوجدون في سوريا وينضمون إلى صفوف الجماعات الإسلامية الأكثر تشددا، مثل جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
وهكذا فنحن أمام موجة إرهابية جديدة ذات بعد عالمي رغم اكتسابها طابع محلي في الأغلب، لكن بتعاضد كل القرائن والشواهد على الأرض نتبين أن مصدر تجنيد وتوجيه القاعدة، في اليمن وسائر دول المنطقة هو أولاً: محلي تقوم به أجهزة استخبارات الدولة المضيفة للإرهاب، وثانياً: خارجي تتكفل به أجهزة استخبارات دولية وإقليمية. ففي الحالة اليمنية، مثلا، ذكرت صحيفة الوسط العدد 225 (4 فبراير 2009) أن الرئيس السابق التقى آنذاك في دار الرئاسة بالعشرات من جهاديي القاعدة القدامى ومن ضمنهم طارق الفضلي، أبو جعبول، جمال النهدي، عبدالقوي البجعي، فوزي الوجيه، وآخرون, وأن الأمن السياسي والجهات المعنية تلقت توجيها رئاسيا، عقب ذلك اللقاء، بإطلاق ما يقارب من 300 من السجناء المحسوبين على القاعدة. فيما ذكرت صحيفة الشارع العدد 83 (7 فبراير 2009) أن العاصمة صنعاء استقبلت خلال شهر يناير 2009 نحو 150 شخصا من الجماعات الجهادية من أبين وعدد من المحافظات الجنوبية، وأن مسئولين أمنيين كبار عقدوا عدة لقاءات مع هؤلاء الجهاديين الذين صرفت لهم مكافآت مالية وتم اعتماد رواتب شهرية لعدد منهم. ومؤخرا أكد مصدر عسكري في مدينة عتق أن من بين قتلى تنظيم القاعدة في معارك عزان الأخيرة ثلاثة كانوا قبل عامين من حراسة علي عبدالله صالح، أحدهم من العصيمات بعمران والثاني من الحديدة والثالث من شبوة.
أما على المستوى الخارجي فقد ثبت اختراق تنظيم القاعدة وعلى أعلى المستويات من قبل أجهزة استخبارات إقليمية (سعودية تحديدا)، ويعد القائد الميداني لقاعدة جزيرة العرب في اليمن المدعو محمد العوفي نموذجا صارخا على ذلك، فالرجل الذي قضى عدة سنوات في معتقل جوانتانامو ثم خضع لدورة مناصحة في المملكة السعودية أفضت إلى توبته وتراجعه عن أفكار القاعدة، لم يلبث أن غادر المملكة خلسة ليلتحق بتنظيم القاعدة في اليمن ويعلن مع رفاقه دمج جناحي تنظيم القاعدة في كل من اليمن والسعودية في تنظيم جديد حمل أسم: تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب، تقلد فيه العوفي منصب القائد الميداني وكان الرجل الثالث في قيادة التنظيم بعد ناصر الوحيشي وسعيد الشهري (سعودي الجنسية!!). لكن المفاجأة كانت في عودة محمد العوفي السريعة إلى السعودية وإعلانه تخليه عن القاعدة بعد شهر واحد فقط من التحاقه بها في اليمن، الأمر الذي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن العوفي كان في مهمة استخباراتية بحتة. وهناك شواهد كثيرة أخرى لا يتسع المقام لذكرها تبين مدى تغلغل أجهزة الاستخبارات السعودية في عمق تنظيم القاعدة، بدليل أن 12 مهاجم من الذين نفذوا جريمة مجمع الدفاع يوم 5 ديسمبر 2013 كانوا سعوديين بحسب تقرير الجهات الرسمية، وأن معظم من تعلن السلطات عن مقتلهم في الحرب الدائرة على الإرهاب في كل من أبين وشبوة هم سعوديون، وهذا بالتأكيد ليس مصادفة.
على المستوى الدولي (الامريكي تحديدا)، هنالك مئات المقاتلين الأجانب الذين يتم جلبهم- تحت سمع وبصر أجهزة الاستخبارات- من دول المنطقة ودول أوروبا للقتال إلى جانب الجماعات المتشددة ليس في اليمن وحدها بل وفي سوريا ودول أخرى بقصد ضمان استمرار ماكينة الإرهاب في المنطقة واستخدامها للسيطرة عليها واحتواء ثوراتها وتوجيهها فيما بعد لخدمة مصالحها. ومن بين مئات الأمثلة التي تبين حجم الاختراق الأمريكي للقاعدة ما ذكره أحد عملائها، الذي رمز لأسمه في سلسلة مقابلات صحفية مطولة مع صحيفة الحياة اللندنية باسم رمزي، بأن الاستخبارات الأمريكية دفعت بأحد الأمريكيين ويدعى آدم غادان، إلى صفوف القاعدة، وهو أمريكي من كاليفورنيا، أستطاع أن يكون المسؤول الإعلامي لتنظيم «القاعدة». وبحسب رمزي فقد جاء آدم غادان إلى أفغانستان وكان عمره 16 سنة، وكان حديث الإسلام ولديه عقيدة قوية، على رغم حداثة سنه. قابل بن لادن وأعطاه البيعة، وقام بتمزيق جوازه الأميركي أمام الكاميرات. يوصف بأنه من أشرس أفراد تنظيم «القاعدة» وأذكاهم في التخطيط، وأعطى دروساً كثيرة لأفراد التنظيم. هذا نموذج واحد فقط يكشف عن مدى الاختراق المتقدم الذي بلغته أجهزة استخبارات أمريكا في صفوف القاعدة، أما العميل نفسه الذي حكى قصة آدم ورمز لنفسه باسم رمزي فقال بأنه التحق بالعمل في الاستخبارات عام 1998 بعد أن أمضى سنوات من عمره متنقلا في الجهاد ما بين البوسنة وافغانستان والفلبين، لكن تغير قناعاته تجاه فكر القاعدة لاحقا جعله يتجه للعمل ضده، وتدرج فيه حتى أصبح المراسل الدولي للتنظيم، فاستطاع أن ينقل كل معلوماته لأجهزة الاستخبارات.
وبحسب خبراء في استراتيجية أمريكا تجاه القاعدة وطرق اختراقها، تعتمد بعض تطبيقات السياسة الأمريكية على وجود طرف غير خاضع للسيطرة قادر على الإيذاء، يمكن نصبه عدواً قومياً، ويجري استخدام هذا العدو في أغراض متعددة منها: إعادة ترتيب الأوراق في بعض الدول المستهدَفة، ومنها تجييش الرأي العام (المحلي والعالمي)، ومنها أيضاً تمرير ميزانيات عسكرية واستخباراتية هائلة، وكذلك تنفيذ أهداف سياسية استراتيجية تتعلق بالأجندة الأمريكية في العالم.
وثمة مستوى آخر في التعامل الأمريكي مع القاعدة ويتمثل في: اختراق التنظيم وإنشاء حالةِ تَمَاثُلٍ (جزئية) بين أهدافه وأهداف الدولة، ليتحول التنظيم بذلك إلى أداة غير مباشرة لتنفيذ أهداف تلك الدولة. وفي المحصلة: تُراوِحُ القاعدة بين (احتوائها استراتيجياً) أو (اختراقها تكتيكياً) من قبل أمريكا، بل ودول أخرى كإيران على سبيل المثال. وهكذا نجد أن الجيل الثالث من القاعدة أخذ يتشكل وبصورة لافتة من عناصر أجنبية أمريكية وأوروبية، ويصعد إلى مواقع قيادية في إدارة التنظيم. ومع الوقت يغدو هذا التنظيم مجرد أداة استخباراتية لتنفيذ مهام قذرة وغسل عمليات وسخة تقوم بها عادة أجهزة استخبارات الدولة المضيفة وتلك الدول الكبرى التي ترسل عناصر التنظيم من الخارج ليقوموا بمهمة تهيئة الأجواء وخلق الذرائع لتدخلاتها وبسط هيمنتها على الدول الصغيرة الهشة، التي تغدوا بفعل اتساع نطاق الإرهاب وعمليات القاعدة فيها مجالا حيويا لمصالحها في المنطقة.
