ببساطة العظماء عُرفت مسيرته الحافلة بالإنجاز والاجتهاد.. بدأ من الصفر، ولم يعد إليه أبدا.. كان رجلا عصامياً استثنائيا امتاز بمواقف عظيمة تجاه الآخرين ، فقد زرع الأمل بين الناس، وأدخل السعادة والفرحة إلى قلوبهم ولا تزال أصداء كلماته تهمس في أعماق كل من عاش حوله حكما وعبرا :( ابذل لصديقك مالك ودمك .. ولعدوك عدلك وإنصافك ) ( لا تشتر الناس بمالك بل بأخلاقك وحسن معاملتك) إنه أحمد عبده محمد المقرمي شيخ الصيادين في تعز - الذي أردنا أن يكون ما نكشف عنه من سيرته عبرة للذين يسعون للنجاح في الحياة ودرسا في تأسيس حياة مفاتيحها الصبر والعزيمة والأمانة ، والصدق ، والوفاء، لتبقى سيرتهم عطرةً يُحتذي بها.
مولده ونشأته
ولد المرحوم أحمد المقرمي في قرية المزابر عزلة المقارمة مديرية الشمايتين عام 1942م ، ونشأ في أسرة فقيرة ، وتلقى تعليمه في معلامة القرية ، ثم سافر إلى عدن ليبدأ رحلة العمل والكفاح المكللة بحسن الخلق وصدق التعامل ، وهما مَنْ قاداه ليكون شيخاً للصيادين بلا منافس .
حين شدَّ الفقيد الرحيل إلى عدن يلتمس الرزق بصحبة بعض معارفه كان على موعد مع العمل في مفرش للسمك ، حيث لازم هذا العمل متدرجا، حتى أصبح مستقلا في مجال بيع السمك.
مع المقاومة الشعبية
انتقل من عدن إلى مدينة المخاء إبان ثورة 26 سبتمبر، وانخرط في العمل الثوري في صفوف المقاومة الشعبية ضد حكم الإمامة ، وكانت تعز محطته الأخيرة الذي استقر فيها بعد ذلك ليوثق علاقاته في مجال عمله كموزع للسمك مع الصيادين في المخاء والسواحل القريبة منها.. وفي بدايات عمله بتعز استأجر محلاً لتسويق وبيع مختلف أنواع الأسماك، ثم ما لبث أن طوره ووسعه شيئاً فشيئاً بمجهوده الذاتي وكفاحه الشخصي ، ولم يشتغل في أعمال أخرى ، وإنما وسَّع علاقاته وطور أعماله، وربط علاقات إلى عدة مدن ومواني، كعدن ، والحديدة ، وجيزان وقد ساعده في ذلك حسن خلقه وصدق تعامله وتسامحه، وهي أمور أكسبته مصداقية لدى كل من تعامل معهم من صيادين وموزعين وتجار.
ثراء وبساطة
رغم تطور عمله ، وتوسع تجارته ، وتغير حاله، من الضيق إلى السعة، ومن الفقر إلى الغنى والراحة والاستقرار - فبعد أن كان عاملاً في مفرش للسمك، أصبح أكبر موزع للسمك في تعز، ويمتلك أكبر سوق سمك فيها - إلا أن كل هذا لم يغير من طباعه، ولم يؤثر في سلوكه وأخلاقه ، فقد ظل ذالك الرجل المستقيم ، المحافظ على دينه وتعاليمه ، والمتسامح مع الآخرين، ولم يعهد من يعرفه منه فخراً ولا تكبراً على أحداً ، وبقى بسيطاً متواضعا مع كافة الناس دون تمييز بين غني وفقير 0
أبو الفقراء والمساكين
كان المقرمي - رحمه الله - ندي الكف ، كريم العطاء ، وكانت يده البيضاء تمتد -كما يقول من يعرفه- إلى أهل قريته والقرى المحيطة والمجاورة، وإلى أهالي الحي الذي يسكنه في تعز ، بل إنه كان يوزع مساعداته النقدية ليس في رمضان فحسب بل ثلاث مرات في العام ، ويستقبل ذوي الحاجات والمعسرين والفقراء الذين يلجؤون إليه لمساعدتهم بصورة دائمة، وربما بشكل يومي تقريبا.
حكومة ظل الصيادين
عندما يتعرض بعض الصيادين للحجز في أريتريا أو جيبوتي كان دوره يبرز بجلاء واضح من خلال متابعته المستمرة لأحوالهم، ولم يكن يعتمد على الجهد والمتابعة الرسمية البطيئة بل كان يتحرك بنفسه إلى أرتيريا وجيبوتي لحل مشاكلهم ، وفك أسرهم ، وتخليصهم من السجون التي يحتجزون فيها، وفي أحيان أخرى يشد رحاله إلى المسؤولين في تعز وصنعاء ، لحثهم على القيام بواجبهم نحو الصيادين اليمنيين الذين يحتجزون ظلما وعدوانا , يأتي ذلك انطلاقاً من شعوره بأنهم جزء منه وأن عليه واجب أخوي وإنساني تجاههم وتجاه أسرهم وأولادهم . حكى بعض معارفه أنه أخبرهم بأحد المواقف حين احتجزت حكومة أرتيريا قوارب الصيادين ، وأنه شعر بالألم ، وظن أن العالم قد تخلى عنه، ففكر ونظر وعزم وتوكل على الله ، ثم قال وهو يبتسم: أخذت عصاي ، وربطت شالي .. ولم ينسى مشاقره التي كانت تعانق رأسه كل حين . وبسبب حنكته ومعرفته بالكثيرين في أرتيريا وإقامته علاقات طيبة معهم تتسم بالاحترام والود، فقد تم الإفراج عن الصيادين وقواربهم ، ليعود لوطنه ، مضيفاً إلى مسيرة إنجازاته إنجازاً آخر .
صديق دائم لجمهورية الصين
في أحد الأيام كان عائداً من مدينة المخاء إلى تعز بسيارته التي تحمل الأسماك ، وفي طريقه وجد باصاً قد انقلب وعلى متنه طاقم من الأطباء الصينيين ، والناس واقفين يشاهدونهم ، ولم يحركوا ساكنا ، لكنه رفض أن يكون مثلهم ، وقام بإفراغ حمولة سيارته من السمك إلى الأرض وبدا كأنه طبيب ومسعف ، فحمل الأطباء إلى سيارته، وكان منهم الدكتور (واان ) الذي كانت إصابته بالغة في الرأس ، فأخذه بجانبه ، وجعل رأسه يستند على فخذيه ، وقام بإسعافهم، ونال شهادة من جمهورية الصين الشعبية كصديق دائم لديها ، وكانت أي بعثة من الصين تأتي إلى اليمن تقوم بزيارته والتعرف عليه إكراما وإجلالا لموقفه النبيل .
من مواقفه
كان رحمه الله يحكي أنه في صغره وأثناء رعي الأغنام ، وبينما كان ألم الجوع يشتد عليه، والشمس تدنو من رأسه مر على بيت كانت صاحبته قد نسيت مفاتيحه في الطابق الثاني، فنادته وطلبت منه أن يدخل ويحضر لها المفاتيح .. قال: فصعدت إلى الطابق الثاني ، ووجدت ما كانت النفس والبطن تهفو إليه من الأكل ووجدت بداخلي صراعين ، أحدهما يشدني إلى الأكل ، والأخر يمنعني ولكنني في الأخير تغلبت على كل شيء، وأعطيتها المفاتيح مسرعا، لكنها أوقفتني وأعطتني ما كنت أفكر أن آخذه من دون حق .
صورة للفقيد مع أصدقائة الصينيين
مع العمال
يشهد جميع العمال والموظفين معه بحسن معاملته لهم ، وبكثير من الحب والود والتعاون الذي كان يربطهم به ، وقد ظهر ذلك جليا يوم وفاته رحمه الله حيث نزل عليهم الخبر كالصاعقة ، وكأنه اعز أحبابهم وأقاربهم ، وكانت جنازته مشهودة ، احتشد فيها كل معارفه ومحبيه وأصدقائه.
وفاته
انتقل أحمد المقرمي إلى جوار ربه يوم الأربعاء 29/2/2012م عن عمر يناهز السبعين عاماً، وافتقد كل من حوله أبا عطوفا ، وإنسانا كريما ، ورجلا قويا في عزمه ، وفتيّا في عزيمته ، كريما في خلقه ، نقيا في سريرته طاهرا في سيرته ، فنام قرير العين في مثواه رحمه الله.