لا ندري هل انتهت العشر الدقائق الفاصلة بيننا وبين "دماج" أم لا؟ كل الذي نعرفه حتى اللحظة هو أن سائق الهيلوكس العجوز الذي نقلنا إلى هناك، يبدو ممتعاً للغاية.. إنه بحق بطل لم تستفد منه أفلام الأكشن الأمريكية ولا استفاد حتى "السلفيون" من لحيته المنسابة ببياض آمن، كأنها ملابس الإحرام. ليحفظك الله يا هذا العجوز، ولكن قل لنا لماذا توقفت هنا؟، ومثل بحار قديم، لاحت أمام عينيه جزر يابسة.. قال مبتسماً: وصلنا "دماج" وهناك تتمركز الجماعة. توقفت السيارة على بعد 500 متر من مركز "دار الحديث والسنة" التابع للشيخ مقبل الوادعي.. كل ما حولنا رمل وأكواخ مبنية من الطين، وقطعان أغنام منتشرة في المساحة من دون راعٍ، وبين المساحة والأخرى ستلمح تجمعات صغيرة لطلبة يفترشون التراب. وفي كل حلقة من تلك الحلقات، ستشاهد شخصاً واحداً فقط يقف بينهم، يتمتم بالمواعظ وهم صاغون إليه، ثم عرفنا أنهم يؤدون دروس العصرية (سنتعرف لاحقاً عن طبيعة الدراسة هناك). كم الساعة يا شباب؟ سألنا أحدهم، فأجاب أحدهم باللغة العربية الفصحى: الساعة الآن الرابعة والنصف عصراً بإذن الله. ومضى. لكن النظر إلى طبيعة الحياة البدائية في "دماج" يصفع تلك الساعة على قفاها، ويخبرك أن الزمن قد توقف لديهم، وأنهم- فقط- مجاميع من البشر المحنطين في انتظار قوافل رحلة الشتاء والصيف لعلها ستمر من هنا، أو ربما في انتظار زيارة "النبي الكريم" عليه أفضل الصلاة والتسليم، ليخرجوا- من جديد- في استقباله بالدفوف والأناشيد. يتباهى أهل السلف بطريقة العيش تلك.. فهم- وبحسب أدبياتهم- هجروا المدن وصخبها، وآووا- منعزلين- إلى جبل يعصمهم من أهل الفسق! (أيش من فسق يقصدوا؟ والله مالي علم). في ملزمة "الابتهاج بأخبار دماج" مثلاً، يتحدث (أبو محمد عبدالحمديد الزعكري الحجوري) عن طبيعة الحياة اليومية في دماج بفخر، واصفاً إياه بأنه "مجتمع ليس فيه تلفاز ولا غناء أو تبرج" مستعيناً بقوله تعالى "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون". وبالتأكيد، لا توجد علاقة إطلاقاً بين استدلاله بتلك الآية الكريمة وبين صلاح النفس المقصود فيها، إذ بوسع المرء أن يشاهد التلفاز ويغني ويرقص، ويعبد الله كما ينبغي لجلاله أن يُعبد. لكن التناقض- في طروحاتهم المعادية للعصر، ولكل وسائل التطور- يبدو واضحاً ومثيراً للإشفاق.. ويكفي- فقط- أن تعرف أن "الحجوري" وهو خليفة زعيمهم الروحي "الوادعي" ظل لردحاً من الزمن- وحتى اللحظة- يدعو أنصاره لمناصبة العداء الدائم لكل قادم من الغرب، لكنه للحظة واحدة لم يحمد الله على نعمة السيارة التي صنعها له ذلك الكافر.. وحينما تسأل أحدهم عن سر ذلك التناقض، يقول لك بنفس الزهو، وبنفس الغرور الفارغ: الله سخرهم لخدمتنا ! أبب والضخامة!! يتبع غداً ................ [email protected]