بالنظر إلى قصة حياة الشيخ مقبل الوادعي، وحصته من العلم، ستكتشف أنك أمام شخص بسيط جداً، لا ينقصه الذكاء قدر ما كان ينقصه احترام نتاجات العلم.. يكفي أن تقرأ لأحد أنصاره هذا التوصيف: كان الإمام الوادعي، رحمه الله، حريصاً على الدعوة إلى الله أيَّما حرص، مع كثرة مشاغله في التأليف والتدريس.. وكان يوجِّه طلبته ويقول لهم: "لا تقبلوا على العلم وتتركوا الدعوة، عليكم بالدعوة إلى الله بما تعلمتم". يعني ادعو إلى الله ب( الحاصل)، إن كنت "متمكن وفاهم" في أصول الدين، حلو.. كسبت أجرين، وإن كنت مش فاهم ولا متمكن، عادي.. كسبت أجراً واحداً نظير محاولتك.. ديننا الإسلامي، عموماً، سهل ولا يحتاج إلى "موهبة"، لكنه بالتأكيد يحتاج إلى مهارات العلم. إن أيَّ إنسان يقلل من شأن العلم لا بد أنه سيعيش غير ذي شأن إلا لدى نظرائه الجهلة.. فما بالكم حينما يكون رجلاً قدم نفسه باعتباره عالماً ومجدداً، يقول بأن علوم العصر غير ذي نفع لأنها لا تدخل مع الإنسان إلى القبر، لا بد وأنه سيورث لأنصاره وتلامذته كما ولمنهجه في الحياة، أيضاً، رؤى وأفكاراً كسولة، وهذا تماماً هو ما يجعل غالبية طلبة دماج يعيشون سنواتهم هناك تحت أوهام الرفعة. نعرف جميعاً أن العلم نور، بيد أن هؤلاء أصبحوا مع الوقت مقتنعين أن العلم مجرد (سور) يحيط بهم في مركز دماج.. وأتذكر الآن أن مدرس التربية الإسلامية شرح لنا في الثانوية معنى الآية 33 في سورة الرحمن "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إن اسْتَطَعْتُمْ أن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَان"، (صدق الله العظيم).. يومها تحدث الأستاذ عن سلطان (العلم).. لكن- وللأسف الشديد- تبدو مفردة العلم بالنسبة إلى كثير من هؤلاء، حاجة أشبه بمضيعة الوقت. سنوات الدراسة في "دماج" على أية حال، تماماً كما هي في "جامعة الإيمان" وفي "مران " أيضاً، لا تثمر في نهاية المطاف عن شيء يذكر، غير أن شباباً "صادقين" سلَّموا مشاعرهم الدينية إلى مشعوذين سوَّقوا أنفسهم إلى المجتمع باعتبارهم شخوصاً مقدسين- وأخطر من ذلك باعتبارهم شخوصاً فوق العلم نفسه- حتى أصبح الواحد من هؤلاء الطلبة بمجرد أن يقرأ كتاباً واحداً يكتفي ويظن أنه قد بلغ من الرفعة والعلم درجات. من الطبيعي أن يشعروا بذلك، ويحشروا الله سبحانه وتعالى في كل خصوماتهم وفي كل أفعالهم وفي كل خيباتهم، ذلك لأن أذهانهم ظلت طيلة سنوات الدراسة هناك مفتوحة على صوت واحد، وعلى قناعة واحدة، وعلى علوم نظرية مفصَّلة تماماً على مقاسهم، حتى إذا ما انتهت الدراسة يعودون مقدسين، أو تحديداً إلى شخوص يرون أنفسهم فوق العلم، ولهم مراتب، ويعودون إلى قراهم وبيوتهم ومدنهم وهم كسالى ذهنياً ومن دون أية مهارات عملية يمكن لهم- عبرها- أن يخدموا الدين والمجتمع والحياة بأكملها. بيد أن الأزمة الحقيقية، أنهم غارقون في عماهم الذهني، ولا يشعرون- ولو للحظة واحدة- أن الله خلقنا لنعمر الحياة، مش عشان نعمر البنادق! وبأن العالم- على الإطلاق- لم يعد بحاجة إلى مجتمعات الفضيلة "الموسحة"! فيما الحياة هي العمل بما يخدم تقدم ورقي المجتمعات ولا أجد، شخصياً، استدلالاً مناسباً أختتم به هذا التناول، أفضل من قوله تعالى في الآية 105 من سورة التوبة "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"..(صدق الله العظيم) . يتبع غداً ........................ [email protected]