القليلون الذين يحسنون تقدير أنفسهم وذواتهم، هم أولئك القليلون الذين يحسنون تقدير الآخرين، وينظرون للحقيقة بمرايا مستوية، لا محدبة ولا مقعَّرة.. ليس من جلد الذات في شيء أن نتعرَّى أمام أنفسنا، وننظر إلى حقيقتنا كما هي، لا كما نريد أو يُراد لنا أن نكون. لكن حقيقة الذات لا يمكن أن تتجلَّى إلا على مرآة الآخر، الندّ المختلف، وعدا ذلك فإن إشاحة النظر عن الآخر، والنظر إلى الذات مباشرة لا يمكن أن يعكس سوى النرجسية، النرجسية الفردية الجمعية الجذلة بعبق التفرُّد، والمنتشية بثمل الاصطفاء.. العيون النرجسية، كاذبة، ربما كان الإنسان هكذا، نرجسياً عنصرياً منذ البدء، أو على الأقل منذ أشرق فجر التاريخ على خدٍّ صعَّره السومريون لبقية البشر.. وبذات النظرة الاستعلائية نظر الفراعنة إلى بقية الأمم، وباستهجان كان اليونان أو الرمان أو الفرس يتحدثون عن غيرهم من الناس، وبموجبها قسَّم العربُ البشرَ إلى قسمين، العرب والعجم!. ارتبطت النرجسية هذه بطفولة المجتمعات البشرية وانغلاقها، وتداخلت مع قيم دينية واجتماعية لتصبح ثقافة عامة راسخة تتضخَّم بموجبها الذات على حساب الآخر التابع والبسيط أو البربري والمتوحش.. كما كان لسدنتها دوافعهم الذاتية في إضفاء هالاتٍ من المثالية والكمال والاجتباء علي تاريخ وخصائص أممهم المنكفئة علي نفسها، والتائقة في عزلتها الجغرافية واللغوية والدينية، إلى ما يشبع رغبة القطيع وحاجته للشعور بالتفوُّق والتميز والتفرُّد والتعالي على القطعان الأخرى. وعلى عراقتها ورسوخها الذي يبعث على اليأس، فإن هذه الثقافة السادية السوداء ليست حتمية ولا تلبث مُسلَّماتها المتجذِّرة في الوعي الفردي والجمعي أن تتآكل وتنحلَّ، توازياً مع انتشار المعرفة والانفتاح واتساع دائرة العلاقات بين الناس. على إيقاع كل خطوة يقترب بها الشخص من الآخر، ويحاول فهمه، يتهتَّك حجابٌ كان يحول دون فهم الإنسان لنفسه ولأخيه الإنسان، ويتهالك جدارُ فصلٍ عنصري كان قائماً بين إنسان وآخر على أساس اللغة أو الدين أو الجنس أو اللون أو المهنة. التنوع والتعدد والاختلاف ظواهر وقيم إيجابية لفسيفساء الثراء البشري، لولا تقوقع الناس وتخندقهم وراءها دون بعضهم على مستويات الأمم والشعوب والفئات والأفراد، على هذا الكوكب الأزرق الصغير الذي يتسع للناس جميعاً بكلِّ تبايناتهم واختلافاتهم.