"عنترة بن شدًّاد العبسي"، أسطورة الفروسية والبطولة العربية الخالدة، لا مزيد على شهرته أو شيوع سيرته، اسمه أيقونة رمزية محفورة بعمق في ذاكرة ووجدان الإنسان العربي. بخلاف الناس العاديين، وبخلاف كثير من الأبطال، وُلد "عنتر" مرتين، الولادة الأولى من أمه "زبيبة"، كانت هذه أمَةً سوداء لأبيه "شدَّاد"، ومعنى ذلك أن يكون "عنتر" عبداً لأبيه أيضاً، كعادة أبناء الإماء في الجاهلية، ولا بد أن أباه "شدَّاد" سماه ""عنترة" وتعني "الذبابة الصغيرة" احتقاراً لشأنه. في عنفوان شبابه،لم تكن تنقصه الفروسية ولا الفصاحة ولا عزة النفس، لقد برع في فنون القتال والشعر بما يؤهله ليكون سيد عبس على الأقل، لكن كانت تنقصه الحرية، ما حرمه من مجالسة السادة، ودخول نوادي الأحرار، وحتى أن يحلم بالزواج من حبيبة قلبه "عبلة". وبدأ مخاض الولادة الثانية ذات يوم منحوس، كنكسة 67م، هاجم الأعداء قبيلة عبس، وبجحافلهم العنيفة أرادوا الاستحواذ على كل شيء، واجتثاث القبيلة برمَّتها، كان تفوُّقهم واضحاً، وطوال المعركة كان "عنتر" من جوار غنمه ينظر بلا مبالاة إلى القتال أو يفتعل اللامبالاة، فكأنما لا يوجد ما يستحق أن يقاتل من أجله أو يدافع عنه، السادة يقاتلون عن حرياتهم وامتيازاتهم، أما هو ففي أسوأ الأحوال لن يقتله الأعداء، وسيظل عبداً يرعى الغنم.. انكسرت عبس، بشكل واضح، و"عنتر" ما زال يراقب، وحتى عندما هرع إليه أبوه "شدَّاد" يناشده أن يقاتل من أجل شرف القبيلة وحريتها وكرامتها، نظر إليه بتثاقل كمن لا يعنيه الأمر، كمن يقول: لو أن الأمر يتعلق بحريتي وكرامتي لقاتلت، لكنني عبد بلا حرية ولا كرامة.. العبد للحلب والصر، لا للكر والفر!. أوشكت الحرب على الانتهاء، تمزَّق رجال عبس، وبدأ الأعداء يستولون على النساء في الخيام، عندها بلغت قلوب بني عبس الحناجر، فاتجه "شدَّاد" إلى ابنه واضطر أن يقول له أمام الملأ: -كُرّ وأنت حر. هنا وُلد "عنتر" ولادته الثانية، وُلد حراً، وعليه أن يقاتل الآن كأيِّ شعب حرّ من أجل حريته لا من أجل نفوذ وامتيازات أسياده وجلاديه.. قال الراوي: وسمع عنتر حبيبته "عبلة" تستغيث به فحمل سيفه واتجه إلى المعركة كأنه "قُلَّة من القُلل، أو قطعة قُدَّت من جبل، فتطايرت رؤوس الأعداء كالأُكَر والأطراف كأوراق الشجر". وأضاف: لقد قاتل "عنتر" بكل استبسال وبراعة وإيمان بقضيته، فانتصر، وأنقذ ما أصبح شرفه وحريته وكرامته.