كان لا بد آن تأتي الجرعة، لا أقول هذا مُرحِّباً بها ومُسلِّماً بها كإجراء إصلاحي لاقتصاد ينهدُّ عبئه على الكادحين، بل أقول هذا كنتيجة طبيعية لمقدمات مادية كانت تُشير إلى أننا سنصل إلى هذه النتيجة، نتذكر أن العطاس طرح على طاولة حكومة الوحدة مشروع إصلاح اقتصادي وإداري متكامل، يهدف إلى الحد من الفساد والقضاء على الأنماط الاقتصادية الطُّفيلية، وجاءت حرب صيف 94 لتنهي هذا المشروع، بل ولتعمِّم هذه الأنماط الاقتصادية الاستغلالية والتعاملات الإدارية الفاسدة على الدولة الجنوبية التي كانت قد قطعت مرحلة لا يُستهان بها في تجربة تقدمية. ليس صحيحاً أن سبب الجُرعة الرئيسي فساد حكومة الوفاق، أو ضرب أنابيب النفط ومحطات الطاقة، أو ما تدفعه الدولة من دعم للمشتقات النفطية، كلُّ هذا يؤثر على موازنة الدولة، لكن ما يحدث هو تدهور الاقتصاد الوطني بشكل عام، بدأ هذا التدهور من الانفتاح النسبي على اقتصاد السوق في الثمانينات، وكانت آثار حرب 94 هي الأكثر عنفاً، فما يُقارب 300 مؤسسة إنتاجية جنوبية تم نهبها وخصخصتها وتصفيتها، وهذا بدوره رمى بهم على رصيف البطالة وحرم الموازنة العامة من الإيرادات، وعمَّق تبعيتنا للغرب الإمبريالي، إذ تم تغيير الاقتصاد من مخطط إلى الاقتصاد الحر؛ فأنشأ طبقة من كبار وكلاء الاحتكارات والاستيراد والكمبرادور. إن دخولنا في نمط الإنتاج هذا التبعي كان السبب الأبرز في هدم الاقتصاد الوطني، فنحن لحقنا بالرأسمالية وهي في عمق أزمتها الجذرية فلم نلمس اللبرالية، ولا اقتصاد السوق؛ بل لمسنا الاحتكارات، وفي كل مرة كنا نأخذ قرضاً من صندوق النقد كنا نتحمل التزامات اقتصادية جديدة تهدف إلى انفتاح الاقتصاد الوطني، وكلما زاد مقدار الدين زادت تبعيتنا، لدرجة الظن بأنه ما عاد بمقدورنا الاستقلال عن هذه الهيمنة الامبريالية! الجرعة، حيلة برجوازية وليست إصلاحاً اقتصادياً.. صحيح أننا بحاجة إلى إجراءات اقتصادية سريعة لتلافي هذا التدهور، ولكن هذا ليس بإصلاح اقتصادي؛ فالتعامل مع هذه الحالة الاقتصادية المتردية والمتخلفة (بالجرعة) لا يجدي؛ لأن رفع الدعم عن المشتقات النفطية في حقيقته ليس إصلاحاً اقتصادياً (ومنع تهريب النفط المدعوم) بل وفاء بالتزامات صندوق النقد التي اشترطت ذلك؛ الجُرعة تعالج جانباً من الأزمة الاقتصادية في السيولة النقدية (أزمة الموازنة) ولا تعالج أزمة الاقتصاد، فالمعالجات الاقتصادية العلمية يجب أن تمس طبيعة المشكلة الاقتصادية، وهذه المشكلة هي في طبيعة النظام الرأسمالي. هذه المشاكل الاقتصادية في جنوب الأرض أو في الأطراف النامية ومنها اليمن، هي أزمة الرأسمالية في طورها الكولونيالي.. إذن لمعالجتها وللوصول إلى نتيجة حقيقية يجب القطع مع السبب الرئيسي، أي مع المركز الإمبريالي، فمعالجة تمظهُر أزمة النظام لا تعالج بنيوياً، بل معالجة جوهر الأزمة الاقتصادية هو من سيقضي على هذا التمظهُر، وعلى هذا الشكل الهش بطريقة ديالكتيكة، والمعالجة هي ببناء اقتصاد مُستقل عن الهيمنة، اقتصاد إنتاجي تعاوني مُخطط، وهذه المعالجات لم تكن في مشروع الحكومات السابقة ولا في برامج أحزاب المعارضة (الانتهازية)، والأدهى من ذلك أن هذه المعالجة العلمية لم تكن حاضرة حتى في برامج من يمثلون اليسار حالياً، في مقدمتها "الحزب الاشتراكي اليمني" الذي في برنامجه الاقتصادي امتداح لاقتصاد السوق وتطلع لانضمامنا لمنظمة التجارة العالمية، كما ورد في برنامجه السياسي الأخير.