على طاولة مقهى شارع خلفي، هو بحق ملتقى أبناء اليمن جنوبه قبل شماله، فاجأني والزميل عبدالولي المذابي أحد الشباب وهو يعيد سيرة الزمن اليماني الأول حينما كان الوطن أنشودة على شفاه اليمنيين. قال لنا: أنا شاب بسيط يتيم الأبوين.. لم يهتم بي لا أب ولا أم ولا أهل ولا مجتمع.. يعني أن الشارع كان عنده ملتقى الآمال والآلام والإحباطات، لكنه يتنفَّس محبة وغيره على بلده الذي يراه يتسرب من العيون والضمائر كما يتسرب الماء من الأصابع. قال هذا الشاب: أعتذر لمقاطعة حديثكم، ولكن.. أنتم إعلاميون وتستطيعون القيام بدور ما يساهم في تجديد الانتماء لليمن ويعيد الاعتبار لمعنى كلمة وطن.. ولم يبقَ إلا أن يردد مع التونسي لطفي بوشناق "خذوا المناصب والمكاسب لكن خلوا لي الوطن". ومما قاله: أستعد للمشاركة في مسابقة فنية في إحدى دول الخليج.. سأحصل على قيمة الألوان وسأشارك وسأقدم الشخصية اليمنية، مستحضراً واجب الواحد منا في أن يجدد انتماءه إلى ثقافة وطنه وإلى الموهبة وإلى القدرات الشخصية التي تفرض أن يسأل الواحد منا نفسه: ماذا قدمت لبلدي.. ماذا قدمت لليمن؟ أسمعنا هذا الشاب من الكلام ما جعلني أتمثل دور المستمع الجيد.. استمعت له وتابعت النظر إليه بنصف وعي، فيما كان النصف الآخر منشغلاً بتدوير فكرة أن يكون الشاب يتيماً.. يعاني.. لم يأخذ شيئاً من وطنه غير الهواء وشيء من لقيمات يقمن صلبه، ومع ذلك يعلن خوفه وغيرته على وطن تتخطّفه سياسات من أدمنوا التهام اليابس والأخضر، فيما هو الفقير الملتاع يتكلم عن هذا الوطن بفخر واعتزاز وأمل. تمنينا- ونحن نستمع له بإنصات- لو أن تجار الأوطان يسمعونه، أو أن الهوامير ينصفونه وأمثاله.. لو أن من أثروا وأفسدوا وعطلوا مسيرة استعادة اليمن لتنفسه يأخذون منه المثل ويتذكرون أن لوطنهم عليهم حقاً، وأن اليمن بلد يستحق من أبنائه أن ينتصروا له من أنفسهم. كم أنت رائع أيها الشاب المظلوم وأنت تتنفس محبة لبلدك، فيما محسوبون على السياسة والقيادة والنخبة والبنوك يتعاملون مع الوطنية وكأنها الوثنية، حيث يسخرون بتصرفاتهم من الوطن، ومن العَلَم.