أيّها الشاب في أثواب العافية، ماذا تعرف عن قافلة العمر التي تمضي صوب الموت لحظة بعد لحظة؟! ماذا تعرف عن لحظات الشيخوخة وساعات الكبر ومواقف العجز؟! ماذا تعرف عن حالة النسيان الدائم التي تزور ذاكرة المسنّين حتى لا يعلم المرء منهم بعد علمٍ شيئاً؟! أيّها الشاب الذي يشرئب عنقه نحو السماء، وتهز أقدامه الأرض هزّاً، ويملأ صدى صوته أرجاء المكان، أتراك تتخيّل لحظة المبيت وحدك تحت التراب؟! وهل تصوّرت قبل اليوم كيف ستواجه امتحان القبول على يدي منكرٍ ونكير؟! أيّها المتلفح بأثواب الغفلة، متأبطاً سلاحك أو حاملاً ذخيرتك، هل تظن أن شيئاً في الحياة يستحق أن تأبه لأجله إن أنت أمعنت التفكير في لحظة الموت والوقوف بين يدي من ليس لنا حول ولا قوة إلا به؟!.. الحديث عن الموت أو الحياة لا يمكن أن يكون إلا ممن عاش حيناً من الدهر، وسار على أرض الصحة والمرض وواجه ألوان الألم وكاد أن يتخطفه الموت، لكن أقداره لم يكتمل بعد نصابها ولم يستوِ بعد قوامها، وحتى تحين لحظة الاستواء تلك يظل المرء منا بين رغبةٍ ورهبة، خوف وأمان، أملٌ، ورجاء.. وهذا ما لا يعرفه شباب لم يمروا بعد بمثل ما مررنا به من تجارب وخبرات. لذا كتبت رسالتي هذه إلى كل شاب من شباب هذا الوطن، سواءً منهم من نهج حياة العلم والمعرفة والارتقاء، أو من اختار أن يكون مسماراً في نعش، أو ذخيرة في جوف بندقية، أو سكيناً في يد خائن، أو خنجراً في غمد ساذج بليد. رسالتي تخطُّها أنامل أمٍ يكبر أبناؤها كل يوم أمامها فيكبر فيها الإصرار على أن يكونوا درعاً للوطن سواءً كانوا ذكوراً أم إناثاً، فالوطن بحاجة إلى عطاء الجميع وحب الجميع وإخلاص الجميع. يكبر كل أبنائي الذين حملتهم أحشائي والذين لم تحملهم إلا صفحات مذكّراتي وشاشة هاتفي وجدار ذاكرتي الذي أصبح معرضاً تشكيلياً يحمل صور الأشراف والنبلاء والمحبين لهذا الوطن، أولئك الذين شاركوني مشاعريس حين تجرّدت من كل معاني الانتماء السياسي ورموزه المحبطة واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ملة الفطرة الطاهرة النقية. أبنائي على مقاعد الدراسة الجامعية أو التدريب التنموي أو حتى أولئك الذين فتحوا لي أبواب قلوبهم يوم تعثرت عواطفهم ولم يثقوا في قريبٍ أو بعيد.. أولئك هم الذين أدعوهم اليوم ليقفوا من جديد في صف الولاء الوطني وأن لا يستسلموا للأطماع دون أن يدركوا ما يدور خلف جدران السياسة العالمية من مؤامرات.. الشباب الذين يظنون أن القوة والقدرة على الانتقام والرد بالمثل وانتهاج العنف والتطرف لم يفكروا ولو للحظة بأهمية التوافق الفكري في إغلاق كوى الفتنة التي تفتحها أيدٍ سوداء لا أصل لها ولا انتماء إلى هذا الوطن، لذا نتحدث عن الموت ولحظة الإنطفاء وساعة الحساب، هل من إجابة يملكها من يتسلّح ويتمترس مثل عبدٍ وضيع؟! ما عساهم قائلون لرب العالمين وقد قتلوا الأبرياء وشرّدوا الصغار والنساء؟!... لا تغرنكم أسلحتكم ولا شبابكم فأنتم محاسبون عن عمرٍ فيما أفنيتموه وشباب فيما أضعتموه، فلا تأمنوا مكر الله إيها المتشبثون بمناكب الساسة والوجهاء وأصحاب القرار، فهؤلاء لن يغنوا عنكم من الله شيئاً، ولن يكون لسان الحال إلا كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل انتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواءً علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص} صدق الله العظيم، سورة إبراهيم آية “21”. أبنائي الشباب، ليس عيباً أن نثور ويأخذنا حماسنا للوقوف في وجه الظلم ومن يمارسه على الضعفاء من الناس، لكن العيب أن نمارس نفس السياسة حين نعتلي ذات المناصب ونتولّى ذات المهام. الوطن يتنفس صعداء الحرية من جديد، حرية مشروعة لا تتجاوز حدود الشرع والدين والخُلق، فلا تكونوا سبباً في إعادة الوطن إلى أدراج التخبط والعشوائية وظلام المجهول، كونوا شموعاً مضاءة وقناديل متوهّجة وإن نفد من جوفها زيت الحياة، فسواكم سيحمل الراية إن أسلمتم الروح على حق وعدل وحُسن خاتمة.