أقول مثقفّا وطنيّا ، ولا أقول مثقفّا فقط ، أو وطنيّا فقط ، فتلك المعادلة التي تمتزج فيها الثقافة العميقة ، بالوطنية الجارفة ، في سبيكة واحدة ، لا تنتج مجرد وعود مزوقة ، أو كلمات معسولة ، أو شعارات زائفة ، مغطاة برذاذ المعرفة ، وغبار الحقيقة . أقول مثقفّا وطنيّا ، حيث لا تنتهي كلمة الثقافة بكلمة الوطنية وإنما تبدأ بها ، ولا تنتهي كلمة الوطنية بكلمة الثقافة وإنما تتخللها ، كأنها العصارة الحيّة في عروق الشجرة المثمرة ، قبل الشجرة الناضجة .
أقول مثقفّا وطنيّا ، حيث تخرج الذات من ذاتها ، فتكبر الروح حتى تصير وعاءا يتسع لجغرافيا الوطن ، وينمو الوجدان حتى يحتضن نبض قلوب الناس ، وهي تخفق كأجنحة الطير في المدن والقرى وشقوق الشوارع والأزقة ، تتعجّل إشراقة الصبح الذي يريد أن يتنفس .
أقول مثقفّا وطنيّا ، لأن المثقف الوطني يستحيل أن يكون نفعيّا ، برجماتيّا ، فينظر إلى الناس كما ينظر المنتوج الراهن للحضارة الغربية في مرحلة تأزمها وإفلاسها ، على أنهم أدوات للاستعمال الشخصي ، شأنهم شأن المناديل الورقية ، التي ينتهي نفعها باستعمالها لمرة واحدة .
أقول مثقفّا وطنيّا ، لأن المثقف الوطني ، لا يمكن أن يكون مزعزعا ، متقلبا ، متلونا ، ينتقل كالحرباء من غصن إلى آخر ، ومن بقعة لونية إلى أخرى ، بينما يتشرب قناعه الجلدي ، لون كل خلفية جديدة يثب عليها .
أقول مثقفّا وطنيّا ، لأن المثقف الوطني ، لا يمكن إلا أن يكون ثوريا حقيقيا ، والثوري الحقيقي هو من يوحّد لا من يفرّق ، ومن يجمّع لا من يفكّك ، و من يجمَع لا من يقسِم ، إنه من يهزم اليأس ، ويطرد السأم ، ويسوق سحب الأمل لتمطر بسخاء في صحارى الناس وأيامهم الموحشة ، إنه من يعرف المسافة بين الواقع والحلم ، ويعرف في الوقت نفسه كيف يقيم جسرا حقيقيا ممكنا بينهما .
أقول مثقفّا وطنيّا ، لأن المثقف الوطني ، هو نبت أرضه الطيبة ، اصطفاه شعبه العظيم واصطنعه لنفسه ، ليكون تعبيرا عن عبقريته ، وتلخيصا لسماته ، إرادة راسخة ، وضميرا حيّا ، وقيّما أخلاقية وإنسانية ، نقيّة عميقة الجذور .
أقول مثقفّا وطنيّا ، لأن المثقف الوطني ، ليس كغيره من هؤلاء المثقفين التابعين ، الذين كلما رأى أحدهم جسما لامعا في الفضاء الخارجي ، أبهرته أضواؤه ، فخرّ عقله خاشعا وقال : هذا ربي .. هذا أكبر !
أقول مثقفّا وطنيّا برتبة مشير ، لا تبجيلا لشخص ، أو تركيزا على رتبة ، وإنما لبتر تلك المسافة الوهمية أو المتوهمة بين المثقف الوطني مدنيا ، والمثقف الوطني عسكريا ، أو على وجه الدقة ، بين الثقافة الوطنية في طابعها المدني ، والثقافة الوطنية في طابعها العسكري ، ذلك أن الذاكرة التاريخية وهي مناجم الخبرة المكتسبة ، وحقول المعرفة المختبرة ، التي روّتها معارك الوجود وتحديات المصير الوطني بالعرق والدم ، منذ بواكير التاريخ الطفل وعلى امتداده ، لا انفصام فيها بين ما هو مدني وما هو عسكري ، فقد ظلت في جملتها معارك الشعب عسكريا كان أو مدنيا ، ومعارك الوطن بالقوة المسلحة ، أو بقوة العمل والبناء ، أو بقوة العقل والمعرفة ، وإذا كانت الذاكرة الإستراتيجية هي أهم وأخطر تجليّات الذاكرة التاريخية ، فإن الذاكرة العسكرية هي قلبها النابض ، وعقلها اليقظ ، ولذلك فإن فصم أي منهم عن الأخرى ، هو فصم لوحدة الثقافة القومية ، ووحدة التاريخ الوطني ، ووحدة مصادر القوة والمناعة ، وهو ليس إلا منهجا للتفكيك ، وسلاحا لزرع التناقضات ، وأداة لبث الفتن .
أقول ذلك أيضا ، لأنني توقفت فزعا حول حجم وطبيعة الأسئلة المسنونة التي صوّبها المذيعون في الحوارات إلى المشير السيسي ، في دائرة واحدة عن دور الجيش المصري في المرحلة القادمة ، وعن دور العسكريين المصريين بعد صعوده إلى السلطة ، ورغم أن بعض هذه الأسئلة كان نطفة لحمل كاذب ، وبعضها كان رجع صدى ، لما تردده أفواه معادية أو مضادة ، وبعضها خرج من صلب مقولات صاغتها حالة الإفلاس السياسي ، التي تضرب دكاكين النخب الطافية فوق صدر المسرح ، إلا أن تكرارها والضغط عليها كان علامة واضحة على حالة من الببغاوية الإعلامية في أفضل الأحوال ، أو حالة من البحث عن تميّز زائف في بعض الأحوال ، ولست أعرف في الحقيقة ، لماذا يوضع الجيش المصري والعسكريين المصريين عموما ، في جمل لا تخلو من عداء مستتر ، ومن مخاوف غير مشروعة ، ومن دعاية مضادة ، لا سبيل إلى إنكار أنها واحدة من أهم أسلحة الثورة المضادة ، منذ أن دخلت مصر في حالتها الثورية الراهنة . وقد يكون الرد جاهزا : إن من حق المذيع أن يطرح ما يشاء من الأسئلة التي تدور في أفق الحياة العامة ، وهذا صحيح دون شك ، ولكن حاسة التمييز ينبغي أن تكون حاضرة ، أولا لأن حجم هذه الأسئلة لا يغطي غير هامش ضيق بين الأسئلة الكبيرة التي تخص المصير الوطني ، وثانيا ، لأن هذه الأسئلة وأمثالها ليست قائمة في فضاء المجتمع الحقيقي ، وليس لها وجود من قريب أو بعيد ، وسط القاعدة الاجتماعية العريضة وإنما تتطاير كالشرر في حيز مغلق ، لنخبة مغلقة ، أما جموع الناس فهي تدرك بعمق ونفاذ أن هذا جيش مصر ، وليس جيش أحد سواها ، وهو جيش الشعب المصري ، بكل أطيافه السياسية وقواه الاجتماعية ، وألوانه الفكرية والثقافية ، وليس جيش شعب آخر ، وأن هذا جيش يجمع كالعدسة المكبرة وحدة المصريين في إطاره ، بغير تمييز ، اجتماعيا ، وسياسيا ، وثقافيا ، وجغرافيا ، فهو المجموع الجبري للشعب المصري المنتخب ديمقراطيا بضريبة الدم . ثم أن هذا هو سلاح مصر ، الذي برهن دون تردد وبأعلى درجة من الحسم والوضوح ، إنه ليس سلاح ، فئة ، أو جماعة ، أو طبقة ، أو سلطة ، والمدهش أن بعضا من أولئك الذين يرتدون قميص عبد الناصر ، يقفون على الجانب الآخر من رؤيته ، فيعبرون عنها معكوسة ، ويعبرون عنه بالمقلوب ، سواء عن سوء فهم أو سوء نية ، أو عنهما معا ، رغم أن أدق معادلة لوضع الجيش المصري في حياة مصر والمصريين ، صاغها عبد الناصر حيث يقول منطوقها بألفاظه ذاتها : " لا يجوز أن يعمل الجيش بالسياسة ، ولكن ينبغي أن يظل الجيش قوة في السياسة " وإذا لم يكن دور الجيش المصري العظيم ، في ثورتي 25 يناير و 30 يونيو ، ترجمة واقعية مباشرة لهذه المعادلة بطرفيها ، فماذا يكون ؟!
حروب على جبهة الداخل ، وحروب على جبهة الخارج ، وبين الحروب هنا وهناك ، تغذية متبادلة دون شك ، لكن حروب الداخل ليست محصورة فقط في أعمال العنف والقتل وترويع الآمنين ، ليست الأشكال المنظورة للجريمة الإرهابية التي تفرغ حقدها الأسود بضمير ميت ، وعقل مريض ، قنابل ورصاص وكمائن موت وخراب .
إنها إلى جانب ذلك كل ما تضخّه ماكينات الإعلام ، من أشكال وأقوال لتسطيح الوعي ، وخلق وعي بديل مزيّف ، إنها تكنولوجيا صناعة الوهم بتعبير أدق ، وهي إلى جانب ذلك كل أشكال وأصناف الخلل المركّب في التوازنات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ، على كافة الأصعدة والجبهات .
ولذلك فإن الملاحظ في صلب القاعدة الفكرية لمشروع المشير السيسي ، كما ظهر واضحا في حواراته المتعددة ، أن هناك ترابطا وتلازما بين قضايا جوهرية ، تمثل أعمدة أساسية فوق هذه القاعدة الفكرية التي يستند إليها المشروع ، فالحديث عن دور الإعلام في إعادة صياغة الوعي ، ليس منفصلا عن الحديث عن دور الدولة ، الذي كان موجودا وحاضرا دائما ، ولكنه لم يكن ظاهرا غالبا ، وكلا الأمرين لم يكن منفصلا عن مواجهة ما أطلق عليه " المافيا " ، أو بؤر الاحتكار في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية القائمة ، ولم يكن بعيدا عن منهج النمو الرأسي ، اعتمادا على خرائط التوسع الأفقي ، لاستثمار ما فوق الأرض ، وما في باطنها ، استثمارا لما هو أهم وهو الطاقة البشرية العاطلة أو المعطلة ، وفي سياق ذلك كله تتبلور قضايا ، الصناعة ، والتكنولوجيا ، والأجور ، والأسعار ، والأجيال الصاعدة ، مع استثمار الزمن والطاقة قفزا وبالحدود القصوى ، ومع تسكين ذلك كله ، في الإطار الأوسع لمستويات وأبعاد الأمن القومي .
والحقيقة أن هذا التلازم بين هذه القضايا الجوهرية ، هو من طبائع الأشياء ، وهو ما يضفي على الرؤية في شموليتها منهجا علميا وتوجهها استراتيجيا ، ينخرط في الكليات ، ويجنبها في الوقت نفسه ألا تتبعثر أو تتعثر في القضايا الجزئية ، و أن تستنزف أو تستهلك في المسائل الصغيرة والهامشية .
لكن الحديث المتعمّق عن دور الدولة ، لا يخلو من ردّ اعتبار لها ، وهو وثيق الصلة حد التلازم ، برد الاعتبار إلى الطبقة المتوسطة ، والطبقات الدنيا ، وكلاهما في المحصلة النهائية ، يشكلان فيضا فكريا منهجيا لإعادة صياغة إستراتيجية العمل الوطني ، وهو أمر اعتقد أن محدداته أصبحت أكثر وضوحا ، وقوالبه الفكرية أصبحت أكثر تحديدا ، ويقيني أن ذلك يرتبط بطبيعة النظام السياسي المنتظر بالمعنى الشامل للكلمة ، وليس بالمعنى المباشر الذي ينصرف إلى دور الرئيس المنتخب أو دور مجلس الشعب ، أو دور المجالس المحلية ، فذلك كله ليس المضمون الداخلي ، وإنما الشكل الخارجي فحسب ، لأن طبيعة هذا النظام السياسي في جوهره لن يكون إلا انعكاسا مباشرا لموازين القوى الحقيقية ، في بنية الدولة الوطنية ، وقواعد المجتمع .
إن أكثر ما أنتجه النظام الأسبق ، وعمّقه النظام السابق ، من بؤس وطني ، ليس تقزيم الدولة ، أو انكشاف المجتمع ، أو استئصال مبدأ الاعتماد على الذات ، أو ما لحق بالطبقة المتوسطة ، والطبقات الدنيا من انهيارات اقتصادية واجتماعية ، أو ما ترتب على ذلك من تصدّع في منظومات القيم والأخلاق والمبادئ ، مع أنه صحيح ودقيق ، ولكن ما خرج من باطن ذلك كله ، من نظام بديل هجين ، محكوم بالمطلق بجماعات المصالح ، التي أحلّت نفسها محل الدولة ، وأصبحت صاحبة الامتياز الأول ، في إنتاج وصياغة القرارات ذات الطابع السيادي والمصيري ، على كافة أصعدة العمل الوطني ، إن مقياس النجاح المستقبلي الحقيقي لأي مشروع وطني ، معلّق بقدرته على عزل التأثيرات السلبية ، التي تنتجها جماعات الضغط وجماعات المصالح المنظمة ، التي أحكمت قبضتها على نظامين متداعين سابقين ، ووصلت حدود فاعليتها إلى مستوى غير مسبوق ، يمكن تلخيصه في تعبير محدد هو " استلاب الدولة " .
أما الحديث عن مصادر التمويل للمشروع ، وقد حددها المشير السيسي في ثلاثة مصادر ، فأحسب أنها يمكن أن تتسع لمصدر رابع ، ينبغي أن يحظى بدراسة معمّقة ، وهو وفق حسابات أولية ، يمكنه أن يوفر ثلث التكلفة المحددة بتريليون جنيه ، وإن كان هذا ليس مكانه أو وقته .
ويا أيها المثقف الوطني ، المعجون بعطر التاريخ ، وعطر الأرض ، وعطر الناس ، وعطر المستقبل ، أمامك جبال من التحديات ، وحواجز من التهديدات ، ولكن لديك طاقة شعب عظيم ، قهر الزمن ، وفرض إرادته على التاريخ ، وحوّل مجراه مرات عديدة ، حيث أراد ، وحيث شاء .
إن النظرية والمشروع والخطة ، جميعها تظل فكرا ، أو حلما ، أو وعدا ، ولكنها تصبح قوة هائلة من لحم ودم ، عندما تتحول إلى عقيدة وإيمان في قلوب الناس ، عندها يصبح عبور الصعب سهلا ، وطيّ المستحيل ممكنا ، وقبول التحدي جاهزا ، عندها تصبح نافذة الأمل ، أكثر اتساعا مما نتصور ، أو نظن ، أو نرى ، لأنها ليست على مقاس فرد ، وإنما على مقاس شعب ..!!