لم يكن باراك أوباما بحاجة للتصريح أنه ليس لديه استراتيجية حيال سورية، فمجمل سياسته وأدائه، منذ نحو ثلاث سنوات، تجاه هذا البلد وشعبه، ينطق بافتقاده رؤية شاملة ومنصفة. وحين يتعلّق الأمر بالدولة العظمى، وليس بأي دولة أخرى، فإن هذا الغياب لا يعكس نزعة حمائمية فحسب، بل يجسّد حالة من التخبّط ووهن الإرادة وتشوّش النظر، بات الأميركيون وغيرهم يستشعرونها، ما أدى إلى تراجع حظوظه بثقة ناخبي بلاده في استطلاعات الرأي العام، على الرغم من أن الرأي العام الأميركي قليل الاحتفال بمجريات العالم الخارجي. بنظرة إلى تسلسل الأحداث من نهايتها، لا بدايتها، فقد راقب البيت الأبيض غزوة داعش الموصل والتنكيل بسكانها، خصوصاً المسيحيين منهم، وكان ما اجترحه أوباما إيفاد مستشارين وخبراء إلى العاصمة، لمنع سقوط بغداد، وليس استعادة الموصل! فلما جرى استهداف الإيزيديين بإعدام الرجال منهم، واستباحة النساء، بطريقة بدائية، ثم السيطرة على سد الموصل، فقد عبرّت الإدارة الأميركية عن صدمتها، كما هو حال سائر المعلّقين السياسيين في العالم! وقد انتظرت الإدارة أن تتحرك جحافل داعش نحو كركوك والسليمانية وأربيل، لكي تتحرك، وترسل مقاتلات جوية مع تشديد هذه الإدارة على أنها لن تفعل ما هو أبعد من ذلك. ومع ذلك، فقد تنفّس العالم الصعداء، وهو يرقب الرجل الكثير التأمل، وقد تحرك، أخيراً، من دون أن يفارقه البطء والتردّد والتثاقل. فلما ارتفعت الأصوات داخل هيئة الأركان الأميركية أن داعش العراق هي نفسها داعش سورية، وأنه لا يعقل التصدي لداعش هنا، وتركها هناك، فقد نطقت الإدارة بالقول إنها تحتاج معلومات استخبارية كافية، علماً أن داعش تسيطر على الرقة منذ أواسط العام 2013 على الأقل. وقد غضّت الإدارة الأميركية، كما غضّ النظام في دمشق، النظر عن وجود هذا التنظيم في شرق البلاد مع تمدّده من الرقة إلى حلب (طردته المعارضة المسلحة منها) إلى دير الزور. في نطاق اللااستراتيجية حيال سورية، سبق أن دعا وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، المعارضة السورية المعتدلة إلى مكافحة داعش، إلى جانب تصديها لحملات النظام، مع الحرص على عدم تزويد هذه المعارضة بأسلحة كافية لأداء هذه المهمة المزدوجة الجبارة، وهي المعارضة التي سبق لأوباما أن وصفها بأنها معارضة أطباء أسنان ومزارعين. وإذ تقع مواجهات بين جيش النظام وداعش، فمن الملحوظ أن مدنيين بالعشرات يسقطون في هذه المواجهات، كما حدث في حملات شنها النظام على التنظيم في الرقة ودير الزور، آخرها يوم الأربعاء، 3 سبتمبر/ أيلول الجاري، إذ سقط 16 مدنياً، بينهم عشرة أطفال، والأطفال هم هدف محبّب للنظام. أما الإدارة الأميركية، فقيل إنها سيّرت حملات جوية للاستطلاع وجمع المعلومات، في الأسبوعين الأخيرين من أغسطس/ آب الماضي. وما زالت اللااستراتيجية تجاه سورية تكبّل أوباما وإدارته وتورثهما الشلل، وتمنح النظام فرصة واسعة لحملة الإبادة المنهجية التي لا تعرف الهدوء، ولا التوقف. والشواهد على ذلك تكاد لا تحصى، ومن أبرزها استخدام النظام الأسلحة الكيماوية على نطاق واسع في الغوطة، قرب دمشق، التي أودت بحياة ب1200 شخص، منهم 400 طفل. فقد اكتفت الإدارة الأميركية ببرنامج طويل، لم ينتهِ بعد، لتسليم مخزون هذه الأسلحة. الجُناة نجوا من أي عقاب. وقد أحسن هؤلاء قراءة الرسالة الأميركية، فعاودوا، بين حين وآخر، استخدام الغازات السامة بجوار دمشق وفي حمص وحماة، من دون أن تلاحظ الإدارة الأميركية ما يجري، أو تتوقف عنده. وهي سابقةٌ لا مثيل لها في السكوت عن استخدام أسلحة محرّمة ضد مدنيين.
وبما أن لااستراتيجية أوباما ليست سراً، وليست بحاجة لاعتراف بها من صاحبها، فقد أمكن لروسيا، عبر استراتيجيةٍ واضحةٍ، أن تستثمر الانكفاء الأميركي، وتواصل تزويد النظام بالأسلحة التي يفتك بها بشعبه. وليس أدلّ على ذلك من هدية القيادة الروسية للشعب السوري المتمثلة بالبراميل المتفجرة، قليلة الكلفة وزهيدة الثمن وذات النجاعة الفائقة في تدمير المباني. لقد جرى إسقاط نحو ثلاثة آلاف برميل متفجر على حلب وحدها في غضون العام 2014. وبطبيعة الحال، إن استخدام البراميل ضد أحياء حلب وساكنيها أمر لا يتعارض، حسب سيرغي لافروف، مع القانون الدولي! لكن أحداً لم يعرف وجهة نظر أوباما المتأمّل، ووزيره جون كيري، حيال هذا السلوك الذي لم يتوقف. بفضل اللااستراتيجية التي يعتمدها أوباما، فإن ملايين السوريين جرى تشريدهم إلى دول الجوار أو إلى العراء في وطنهم، وقلما نجحت الأممالمتحدة بإدخال الغداء والدواء إلى دمشق وحمص وحماة. فعرف السوريون، لأول مرة في تاريخهم، ظاهرة الموت جوعاً. وتلقت إيران، بدورها، المبادرات الأميركية اللااستراتيجية باستحسان وامتنان، فنشطت في إرسال فرق من الحرس الثوري، وعهدت إلى حزب الله بالانضمام إلى النظام في حربه على شعبه، وجرى إيفاد ميليشيات عراقية، منها فيلق بدر وعصائب أهل الحق وأفواج التدخل السريع (الصدرية)، للتنكيل بالسوريين، عقاباً لهم على نشدانهم الحرية والكرامة، ولضمان أن يبقى الموقع السوري دائراً في الفلك الإيراني، والتعامل خلال ذلك مع ملايين السوريين باعتبارهم شعباً فائضاً عن الحاجة الاستراتيجية. وقد لوحظ أن الاندفاع الروسي والإيراني تضاعف وازداد جموحاً، بعدما امتنعت إدارة أوباما عن معاقبة النظام على استخدامه أسلحة كيماوية، إذ قرّ في مدارك صانعي القرارات في موسكو وطهران أن هذه الأسلحة مُحرّم استخدامها من وجهة نظر الإدارة الأميركية والكونغرس تجاه الإسرائيليين فقط، وليس ضد السوريين. وبما أن الحرب هي على السوريين فحسب، فلا مشكلة، إذن، ولا خطوط حمر أو سواها. وها هو الرئيس أوباما يكاد يُميّز بين داعش العراق وداعش سورية، فيتصدى للأولى ويتمنّع عن مكافحة الثانية، لسبب يتعلّق بمسرح الأحداث، وهو الأرض والأجواء السورية، ولاتصال الثانية باللااستراتيجية حيال سورية وشعبها. فزهاء أربعين شهراً من حملة الإبادة والاستئصال المتواصلة حتى الساعة، لا تحرك ساكناً لدى ساكن البيت الأبيض، علماً أن داعش التي نشأت في العراق، في العام 2004، ظلت محدودة الأثر إلى أن وجد هذه التنظيم في الجموح الدموي الذي أطلقه نظام دمشق أفضل بيئة وأحسن ظرف لكي يسهم بقسطه في التطرف البربري الشائع، فيما ينعم الرئيس أوباما وإدارته بهدوء اللااستراتيجية وسكينتها.