إن من أعظم ما وهب الله للإنسان عقلاً سليماً، وفكراً ناضجا وإدراكا ثاقباً، وسعة في الأفق واستيعاب للحق، به يرتقي أناس وينحط به آخرون وبه يسود الفرد وينال الصدارة ويميز الخير من الشر ويعمل النفع ويبتعد عن الضر، ويوصل أمته إلى بر الأمان حتى ولو كان نحيل الجسم ذميم الخلقة "إنما المرء بأصغريه لسانه وعقله "، ميّز به الإنسان عن بقية الحيوانات، بتعطيله أو انحطاط تفكيره يفقد الإنسان إنسانيته وينخرط في عالم الحيوان البهيمي، يقول عز من قائل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}. ولعظم منزلة هذا العقل كان أحد الضرورات الخمس التي اتفقت الشرائع على حفظها، فحفظه حسياً ومعنوياً غاية من غايات هذه الشرائع. وبالتالي فإن أساس أي تحول أو نهضة أساس فكري، كما أن أساس التخلف مشكلة في الفكر، لذلك فإن تحرر الأمم وتطورها يجب أن يسبقه تطور فكري، ولن يكون متاحًاً دون تحرير العقل من القيود الزائفة التي صُنِعَتْ لتكبيله عن القيام بدوره في تجديد الفكر الصالح للنهضة، حيث العقل هو الطريق نحو الخلوص إلى واقع فكري يتفق ومعطيات العصر، وهي المهمة الأساسية التي تميِّز الفكر الحيَّ عن الفكر الميت. ولمكانة العقول السليمة لدى الشعوب الواعية الطموحة، المثمنة لهذه الكنوز يكون همها الحفاظ عليها واحترامها وتقديرها، والاحتفاء بها، والدفاع عنها، وتسخير ما تستطيع من قدرات لتطويرها وتفعيلها، وتُهيأ الأسباب والأجواء لتنتج الكثير، ولعل احد وأهم صفات التخلف في أي مجتمع هي التستر على الخطأ حتى يتفاقم، ومن صفات المجتمع الغير متقدم عدم الاعتراف بالخطأ والاستخفاف بعقول البشر، فالاعتراف بالخطأ دليل على احترام عقول الناس. ان المنهج الفكري هو الذي يحدد مسيرة الفرد وحياة الأمة، وحيويتها مرتبطة بنوعية التفكير الذي تسير وفقه، فكم من أمة اندثرت وماتت عندما غرقت في المستنقعات الراكدة لأفكارها الجامدة، وكم من أمة نهضت بنهوض أفكارها التي غذتها بالحياة والروح عندما اعتمدت منهجاً سليماً في نظامها الفكري، وبالنظر إلى واقعنا الجنوبي اليوم نجد تخلفًاُ واضحًا، ينعكس عن تخلف فكري أقل وضوحًا، يعاني من غياب القدرة على التجديد؛ والاستمرار بالتقليد الأعمى أحد مظاهر الجمود، التي أبقته محصورًا في قوالب جامدة، أخرجته من دائرة الزمن بفعل هيمنة نظام حكم شمولي فرض رأيه على المجتمع الجنوبي لاتباع فكره دون نقاش أو نقد وحرم عليه تخطي الخطوط الحمر التي وضعها حتى أوقعه في الطامة الكبرى وهي القضاء على الإبداع والتطور وطمس ملكة التفكير والابتكار والأسوأ من ذلك تكوين قاعدة عقائدية دخيلة، ضعيفة الأسس والمرتكزات ،وضعتْ أمامه مسلَّماتٍ شكَّلتْ له حدودًا من كافة الجهات وأدت إلى نتيجة واحدة، هي تقديس الماضي!، فعندما يكون الجمود والتحجُّر والانغلاق ورَفْض كلِّ جديد، ومحاربة كلِّ تفاعُل مع الآخر هي السماتِ الأساسيةَ للفكر، فإننا نشاهد مجتمعُ الماضي هو الحاضر بعينه، وما يعانيه الجنوبي اليوم هي أزمة إلا عقل (الفكر)، جعلته أسيرًا لماضيه، بأخطائه وانحرافاته! يعكس هذا الفكر الرافض للآخر، الذي لا يرى الحقَّ إلا من خلاله وحده. يُرفَضُ الحوارُ والتغييرُ رفضًاً قاطعاً، ويُقدَّس الماضي تقديسًا مطلقًا. ان التعامل العقلي في تلقي ونسخ المعلومات، أفضى إلى التكرار والتقليد الأعمى، في تبني أفكار وآراء دون وعي أو فهم لها ودون إدراك للظروف التي أنتجت هذه الأفكار والآراء والمشاريع، وبالتالي تغيب العقل وراء الموروث المستورد وحل "الانفعال" محل "العقل"، وأخذت ( العاطفة) مكان ( الحكمة) وتم التفاعل مع هذا وذاك في لحظة غياب العقل البصير، ولم ينظر هذا المقلّد إلى الثقافة بإطارها الزمني، وأطرها الثابتة والمتحولة، وقربها أو بعدها عن المقاصد الحضارية للمجتمع، وإنما ينظر إليها من خلال عاطفته المشوبة ورغبته في محاكاة نموذجه الفكري الموروث، هذه الإشكالية المنهجية التي يفكر فيها وحالة الجمود وضعته امام مجموعة مظاهر سلبية عطلت الاستدلال الفكري الحيوي وتوقف العقل عن ممارسة دوره الطبيعي، مع الاستمرار على الخطأ، ما أدى إلى خلق تراكمات متتالية لجملة من الأخطاء المعقدة، إلى أن أصبح مجتمعُ يحمل ثقافةً تعاني من جمود مميت وقيود زائفة. وفي ظلِّ هذا الوضع المتردِّي والمتفاقم والظروف البالغة الخطورة والتعقيد التي تعيشها اليمن عموماً والجنوب خصوصاُ نسمع العديد من النداءاتٌ والمطالباتٌ التي تنادي إلى وحدة الصف الجنوبي، كل هذه الدعوات لا تتعدَّى أن تكون عبارة عن مسكِّنات ومهدِّئات لحالة الاحتضار، لم يحاول أصحابها تشخيص الحالة وتحديد المشكلة لكي تبرز وجهاتُ النظر المختلفة لوضع المقترحات والحلول لمعالجتها، لربما تنبه القليل منهم إلى العلة لكن في التركيز على المظاهر والأعراض فحسب ، القليل من المفكِّرين هم مَن أعاد المشكلة إلى الجذور وهو العقل المتحجر الذي بات يتعامل مع أسئلة الماضي على أنها مسلَّمات، عقل لا يتعاطى مع الواقع، بل يكرِّس النقل على حساب النقد والتقييم كنتيجة طبيعية لحصار العقل من قِبَل مَن هم أشبه بمقاولي المعرفة. وإذا ما أردنا تغيير واقعنا الجنوبي إلى واقع جديد سليم فلا بد لنا ان نعتمد بشكل كبير على كشف الأسلوب الذي نفكر به، فواقعنا السيئ والمرير هذا يؤكد أننا نفكر بأسلوب خاطئ ولابد أن نغير أساليبنا الفكرية والاستدلالية، لهذا فإن الفكر الذي لا يجدد نفسه من الداخل لن يستطيع التجديد موضوعيًّا، أي لن يكون هناك تطور متقدم في الواقع الملموس ، وهذا التجدد في الفكر يجب أن ينسجم مع التغير في الواقع، فكما أن الفكر المتجدد يجدِّد الواقع، كذلك فإن الواقع المتغير يؤثر في الفكر نحو تجدد مستمر. من هنا تأتي مهمة المفكر الواعي، ليفنِّد كلَّ ما علق من مظاهر تحدُّ من ميزات فكره في التعاطي مع كلِّ جديد، وليثير في المجتمع ما يمكن له أن يعمل على إحياء الفكر، ويزيل القيود عن العقل في إخراج الفكر من حالة الجمود المميت، أو على أقل تقدير، أن يساهم في تحريك المجتمع نحو رَفْض المظاهر المقيِّدة للحرية تحت أي غطاء كان.