كتب : رياض خليف «قصائد هدى تضج بحنين الطفولة القلقة والحياة الهشة مثل أجنحة الفراشات والشهوة الدفينة التي لا توقظها إلا لغة الشعر»، هكذا قال الكاتب واسيني الأعرج في تقديمه لعمل الشاعرة التونسية هدى الحاجي القادمة من مدينة سيدي بوزيد و مناخاتها… والحقيقة أن هذا العمل لا يضج فقط بل هو مكتنز بالكثير من الأساليب والمعاجم والرسائل الشعرية، حيث تتعدد مصادر التخييل الشعري وتتزاحم في ثناياه لتجعل منه تجريبا متواصلا وارتحالا من مكان إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، فالذات الشاعرة تبدو حينا حالمة ومرتحلة إلى مرابض المجد العربي، وحينا باكية ضحايا الواقع العربي، وحينا آخر موغلة بصوت الأنثى العاشقة.. فالتخييل الشعري لا يستقر على فضاء واحد ولا ينهل من الرافد نفسه، ذلك أن الشاعرة تطوف بين جملة من المصادر والمناخات تستلهم منها صورها ومعاجمها الشعرية… ذلك أن المخيلة الشعرية تحلق بعيدا في تخوم الماضي، ولكنها تضطر إلى النزول وملامسة الذاتي والراهن، وما التخييل الشعري إلا إعادة تركيب للراهن والماضي أو للتاريخي والواقعي. الروافد التراثية إن تحليق الخيال الشعري بعيدا قاد وجهته في هذا العمل إلى التاريخ الذي وظفته الشاعرة ونوعت مظاهره حتى شكل رافدا أساسيا في هذا العمل. 1 الفضاءات التاريخية: ذلك أن المخيلة الشعرية جالت في عدة فضاءات ذات بعد تاريخي منها ما اتصل بالزمن الأندلسي، مثل قصر الحمراء وغرناطة والزهراء، ومنها ما اتصل بالشرق العربي، حيث نجد حضورا لفضاءات عربية عتيقة أخرى مثل أسوار عكا القديمة وسقوف أقواس الناصرة وساحات بابل «تطير إليك من النوافير المنسية فراشات لوعة ذاهلة بساحات بابل العتيقة وآهات شوق من ضباب تتسلق الحيطان الموجعة بقصر الحمراء ظمأى لأنخاب الفاتحين ص19 ولعل تأثير هذه القصور، خصوصا منها الزمن الاندلسي، يبدو أكثر من مجرد ذكر هذه الفضاءات فالشاعرة تزين مختلف قصائدها بمعجم يحيل على ما عرف به هذا العصر من زركشة وزينة، لذلك يتناثر الزمرد والماس وغيره من الأحجار الكريمة وعلامات الزينة في هذا العمل. 2 التناص ولا يقتصر حضور التاريخ عند هذا الجانب المتمثل في الفضاءات، بل يتعداه إلى توظيف نصوص قديمة تشكل بدورها رافدا مهما من روافد الخيال الشعري في هذا العمل ومنها: التجارب الشعرية: فأما النصوص الشعرية فنذكر منها قصيدة نزار قباني عن غرناطة ونشيد برومثيوس للشابي، كما نذكر بعض قصائد ابن زيدون في عشقه لولادة ومنها أضحى التنائي.. ويبدو تأثير هذه القصيدة جليا في قصيدة «حين غمست ولادة قدميها في نافورة الحمراء»، وهي قصيدة تستدعي فيها الشاعرة مناخات هذه العلاقة العاطفية التاريخية وتعيد توظيفها في سياق جديد لا تخلو منه الفضاءات التي شهدت هذا الحب القديم ولا الحالات النفسية والشعرية التي رافقته: «ينقر الحب ذاكرتي يقرئني من ولادة السلام يلفني ابن زيدون في ملاءة أضحى التنائي بديلا من تدانينا» ص31 ان الشاعرة استعادت هذا المناخ التخييلي، فكررت تجربة هؤلاء بشكل جديد فاستدعت غرناطة وبرومثيوس في قصائد جديدة، ومهما كان الفرق شاسعا فلا يمكن للتجارب الأولى ان تغيب عن ذهن القارئ.. فالشاعرة تنزل بأرض التجارب القديمة السابقة لتنطلق من جديد في صراع مع اللغة والمعاني والصور. النص الديني كما تنطلق الشاعرة في عملها التخييلي من النص الديني والقرآني، حيث توظف في بعض الصور الشعرية بعض القصص القرآني، مثل قصة سيدنا سليمان والهدهد «انأ الهدهد الذي ما كلم الأنبياء ولا طار في السموات غير مجرات اللغة ولا ارتدى أجنحة من ريشات بلابل الخيال كي يقطف نيازك المحال انا الهدهد الحزين لو جئت سليمان بكل قصص العاشقين وأشعت اسرار الهوى عن حورية من سبأ لن يطفأ ياقوت عمري» ص60 كما توظف الشاعرة النص القراني بشكل واضح وجلي في مقاطع أخرى «هو لم يتل في مدرسته التي تناثرت في فحيح التنين العبري سورة النحل ولا سورة الفلق غير أن يمناه رتلت سورة حجر» ص134 الاساطير ولا يغيب عن تجربتها الاعتماد على بعض الأساطير حيث تستدعي برومثيوس وعشتروت وغيرهما، كما تخيم على كثير من صورها الشعرية تخيلات لمشاهد أسطورية خارقة… «يتوزع غيم الوجع البري بجعا أسطوريا يقتفي خطو سنائك يعدو مع خيول العمر في وريقات الزبد أشاهد في مرايا الضباب نبوءة غليونك الممعن في التجلي» ص115 من التاريخ إلى الطبيعة: إن الخيال الشعري في هذا المستوى هروب إلى الماضي واستنجاد بالموروث الفكري والحضاري والديني..انه تحليق في فضاءات وأزمنة بعيدة. لكن هذا الطابع التاريخي الذي اتسم به يجب ألا يحجب عنا الحضور المهم للطبيعة في هذا العمل، فالشاعرة ترسم صورا شعرية تحضر الطبيعة في مفرداتها وثناياها «أقول للعاصف المتقد في دمي نازل فراشات وداعتي بسيوف من حفيف الثواني ألا هبي يا طيور الندى زقزقي في دمي لحنا من ضجيج البرتقال» ص158 فالطبيعة رافد آخر من روافد التخييل الشعري الهارب من اليومي والباحث عن كون شعري بديل… وقد تنوع حضورها وبث في العمل روائح الحلم: أعدو مع مهرة الغيم ووعول الذاكرة ارعي قطعان حملانها الذاهلة ص15 3. الروافد القريبة والراهنة لكن هذا الخيال إذ يروم صنع كون شعري جديد ويرحل بالذات الشاعرة إلى تخوم أخرى فانه يقترب في النهاية من ذاتها ومن واقعها وعصرها.. فالتحليق في مناخات تاريخية وطبيعية والتوغل في الثنايا البعيدة من أماكن قصية وأزمنة غابرة لم يحجب الراهن، فكان بدوره رافدا من روافد صورها الشعرية، حيث نجد فيها صدى لما تشهده المنطقة العربية من اعتداءات وما يلقاه الإنسان العربي من وحشية وما يشعر به من وجع، خصوصا في العراق وفلسطين، فتحيل بعض الصور الى الاعتداءات الوحشية الصهيونية على الشعب الفلسطيني الأعزل، مثل هذا المقطع الذي يبرز مأساة أطفال غزة: لطفلة في غزة تلاحق فراشات بهجتها المحترقة كسروا جناح طفولتها افترس ذئب في الغابة جدائل زيتون جدتها… ص81 وتحيل بعض الصور الأخرى على الوضع العربي برمته: قمر عربي أغمض أهدابه كي يمر المغول في نعاسه لحدائق من أزهار الشمس وذهب المعلقات السبع ص26 إن هذا التوغل في الماضي وفي جراح المجموعة ومحاولة التعالي عن الواقع وصنع عالم شعري آخر لم يمكن الشاعرة من التخلي عن نسويتها التي ظلت مصدرا من مصادر الخيال الشعري في هذا العمل، حيث رددت أسئلة المرأة وتكلمت مرارا بضمير العاشقة فأعلنت حبها وتمسكت به أحببتك فانتمت أسئلتي لموجة الطوفان أحببتني فأورقت أزمنتي وأخذت نعومتي لوعة الرمان لو أمكن لقبلتي ان توقف الزمان ص67 ونهلت من صور العشق والحنين وراودتها الذكرى: عاد موسم التوت فتذكرت مذاق شفتيك واشتعلت شفتاي بأغنية لا تموت وتذكرت كيف التقينا ذات مطر في بيروت ص105 صفوة القول أن هدى حاجي تكتب نصا شعريا مركبا تزدحم فيه الصور والمفردات وتطرح خلاله عدة أسئلة جديرة بالبحث. ٭ شاعر تونسي