عندما أظلمت سماء دنيا العرب واكفهرت الأجواء كاد اليأس أن يغزو النفوس وينشر الخوف والرعب والتشاؤم، إلى درجة أن البعض بدأ يروّج لنهاية العرب أو موتهم السريري ويجزم بأنهم وصلوا الى حافة الهاوية بسبب الأوضاع المأسوية التي تمر بها المنطقة بأسرها وكل دولة عربية على حدة. منذ زمن ونحن نتساءل: أما من نهاية لهذه المآسي المتوالية والمصائب المتراكمة؟ وبعد الحوادث الدامية التي عصفت ببعض الدول العربية خلال السنوات الأربع الماضية عادت التساؤلات ومعها رجاء وأمل ودعاء بأن يلهم الله من بيده الحل والربط أن يسعى إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه ويضع حداً للتدهور ويوقف نزيف الدماء الزكية. ومع تفاقم الأخطار وتحول الأزمات المستعصية الى حروب غبية، والخلافات الشرسة الى قتال وحشي، والعناد الكامل الى دمار شامل، صارت التساؤلات أكبر وأشد مرارة: أين الحكمة العربية؟ بل أما من حكيم في هذه الأمة يدق ناقوس الخطر ويهب لقول كلمة الحق ويطلق نداء عقل وقلب وضمير لحقن الدماء والعودة الى طريق الحق ونبذ الخلافات والبدء بحوار بنّاء وجدي من أجل إعادة الأمور الى نصابها وتصفية القلوب والنوايا وإيجاد حلول ناجعة للأزمات، والالتفات الى جهاد البناء وشنّ حرب سلمية لإعادة الإعمار وإنقاذ البشر قبل الحجر وإنهاء مآسي اللاجئين والنازحين وإعادتهم الى بيوتهم، وكفكفة دموع الأطفال وتأمين سبل تأمين الحياة الكريمة للشعوب ولقمة العيش الكريمة للجائعين. نعم، كاد اليأس يعصف بالقلوب وأمعن الحزن في كسرها ليتحول الدمع الى دم والنبض الى حرقة... وعندما كنّا نتحدث عن وجوب إيجاد حل سريع أو أهمية الاتجاه نحو تسوية، كان الرد جاهزاً وخلاصته: «فالج لا تعالج». وعندما وضعت لكتابي الجديد عنوان «ربيع الأمل والدم» بادرني الأصدقاء بتساؤل مرير: ولكن هل بقي من أمل لنا؟ وهل يمكن أن نحلم يوماً بهذا الترف بعد كل ما جرى، وكل ما ارتكب من إجرام وقتل وذبح وتشريد وعنف وإرهاب وانتهاكات لم يشهد لها العالم مثيلاً، بل حتى في أيام الحروب كانت هناك بعض المسلمات والضوابط، إضافة الى أن القتال كان يجري بين أعداء ودول، فيما تدور حروبنا ووحشيتها وظلمنا بين أبناء الأمة الواحدة والوطن الواحد والعشيرة الواحدة، بل أحياناً بين الأهل والإخوة والجيران لينطبق علينا قول الشاعر: «وظلم ذوي القربى أشد مضاضة... من وقع الحسام المهند». ومع كل هذا، لاحت في الأفق بادرة أمل ملفتة، وأنعشتنا نسمة طرية خففت من لهيب نيران الأحقاد، وبدا للجميع شعاع قبس من نور أطل علينا من نهاية النفق العربي المظلم عبر نداء خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز وجهوده الحميدة لرأب الصدع وإنهاء الخلافات وفتح صفحة جديدة تضع حداً للتدهور المدمّر وإنقاذ الأمتين العربية والإسلامية من كارثة محققة. فقد جاء هذا النداء التاريخي ليضمّد جراح العرب ويمنحهم الأمل بزوال الغمة وعودة الأمن والأمان وإحلال السلام، بعد سنوات عجاف مليئة بالعذاب والشقاء والقتل والتشريد، استكمالاً لما بذله من جهود لتوحيد الصف العربي والاحتكام إلى الحوار من أجل تسوية الخلافات وحقن الدماء وصولاً الى نداءاته المتكررة لنبذ العنف ومواجهة الإرهاب بحزم وتصميم والحوار مع «الآخر» (الأديان) ضمن خطة شاملة أعلن عنها في حينها، ثم في دعوته الخيرة إلى الحوار بين المذاهب الإسلامية لإزالة أسباب الشقاق والتباين وتضييق شقة الخلاف حول بعض المسائل المتوارثة، والذي لم يعد هناك مبرر لاستمراره وتحوله الى فتنة كبرى لا تبقي ولا تذر. وتذكرنا هذه المبادرة التاريخية بما أقدم عليه الملك عبدالله في قمة الكويت قبل اندلاع حوادث «الربيع العربي» عندما فاجأ الجميع بنداء عاطفي دعا فيه الى وضع حد للخلافات ورصّ الصفوف وتعزيز التضامن العربي وتوجيه كل الطاقات للإعمار ومواجهة العدو الإسرائيلي وتحرير الأراضي العربية المحتلة، وفي مقدمها القدس الشريف، وإنقاذ المسجد الأقصى المبارك من براثن الاحتلال وما يخطط له لهدمه وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه. وكان قد سبق هذه المبادرات الإعلان عن مبادرة الملك عبدالله للسلام في الشرق الأوسط التي تحولت الى المشروع العربي للسلام بعدما تبنته القمة العربية في بيروت. وبكل أسف، فإن أصحاب القرار في العالم العربي لم يستوعبوا أهمية هذه المبادرات ومفاعيلها الإنقاذية ولم يعبّروا عملياً عن تضافر النيات الحسنة لمواكبتها. كما أن الدول الكبرى لم تنتهز الفرصة لإحلال السلام وإزالة أهم عامل عداء لها وأخطر تهديد لمصالحها، فيما كانت إسرائيل تعمل على محاصرتها بكل الوسائل والأساليب وبشتى أشكال التآمر والخبث الصهيوني والانتهاكات الرهيبة، بهدف نسف أي أمل بإحلال السلام العادل. ونتيجة لذلك حصل ما حصل وانفجرت شلالات الدم لتدمر دولاً وتقلب أنظمة وتشعل نيران حروب عربية- عربية وتوفر الذرائع لإسرائيل لتشن مزيداً من الاعتداءات ضد الشعب الفلسطيني. ووصلت السكاكين إلى الحناجر بعدما تسلل التطرّف الى الصفوف وانتشر الإرهاب الذي شوّه مطالب الشعوب وأمعن في الذبح والقتل والتشريد والسبي وقطع رؤوس الأبرياء. ومن متابعة ردود الفعل الأولية لمبادرة خادم الحرمين الشريفين، يبدو أن العرب، شعوباً وقيادات، قد تنفسوا الصعداء وبدأوا يحلمون بغد مشرق وبحلول قريبة وبأمل الخروج من النفق المظلم، مع أن الحذر واجب والاتعاظ من التجارب السابقة ضروري، خصوصاً أن المنطقة حبلى بالحوادث والتعقيدات والمطامع والصراعات. وأنها كانت وما زالت تعيش «حالة زئبقية» تتأرجح فيها بين حال وحال بسرعة البرق. وهكذا، فإن حدثاً واحداً يعيد بعثرة الأوراق ويغير السياسات، وخطوة مفاجئة تنسف الأوضاع وتغير الأحوال وتقلبها رأساً على عقب، كما تعودنا عبر العصور وخصوصاً خلال السنوات الأربع الماضية. وما يدفع العرب الى التفاؤل ما صدر من ردود فعل إيجابية على نداء خادم الحرمين الشريفين بالتلازم مع عدة مؤشرات ودلائل وتحركات توحي بأن العربة وضعت على السكّة وان طريق الألف ميل المعقدة بدأت بخطوة مفصلية مهمة نحو الانفراج ونزع صواعق كادت تساهم في الانفراج الشامل. ومن بين هذه المؤشرات: - نجاح المؤتمر الاستثنائي للقمة الخليجية في الرياض في حل الخلافات داخل مجلس التعاون، وخصوصاً بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وقطر من جهة ثانية، وإتباعها بنداء الملك عبدالله وتركيزه على دور مصر وتجاوب الرئيس عبد الفتاح السيسي الفوري معه، وبخاصة لأن الخلاف بين مصر وقطر خطير وله علاقة بمجمل الأوضاع العربية الراهنة وبالعلاقة مع «الإخوان المسلمين». - تغير ملامح الخطاب الإعلامي العربي وسط أحاديث عن خطوات لاحقة لإجراء مصالحات عربية- عربية وإعادة ترتيب البيت العربي. - ظهور بوادر تسوية (تطبخ بنودها على نار هادئة) لحل الأزمة السورية وتلعب فيها روسيا دوراً مهماً من خلال الاتصالات السرية والزيارات العلنية إلى موسكو لوفود تمثل النظام والمعارضة المعتدلة التي تقبل بمبدأ الحوار على أساس بيان «جنيف -1»، ثم في زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل إلى موسكو قبل ايام من زيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلم واجتماعه مع الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف الذي أشاد بالدور السعودي في إحلال السلام في الشرق الأوسط ومحاربة الإرهاب، معلناً تشكيل لجان مشتركة تعيد إلى العلاقات بين البلدين حرارتها بعد فتور ظاهر. - على رغم الخلاف الروسي - الأميركي في شأن أوكرانيا، كثر الحديث أخيراً عن توافق على وضع حد للحرب في سورية وعقد مؤتمر «جنيف – 3» والالتفات إلى محاربة التمدد «الداعشي». وتتحمس روسيا لاستعادة دورها بعد الخلاف مع الغرب حول أوكرانيا الذي أدى الى معاناة روسيا أزمة اقتصادية خانقة نتيجة هبوط أسعار النفط وانهيار سعر صرف الروبل. - توافق عربي- إسلامي- دولي على محاربة الإرهاب ووضع حد للعنف ومنع امتداد هذه الظواهر الى الخارج حتى لا تغرق الدول المعنية في مستنقع الدم والدمار، علماً بأن المصالحة السعودية- العراقية ستمهد لتعاون مشترك يحفظ أمن البلدين والمنطقة بأسرها. - توافر الكثير من المعطيات عن الاتجاه الى حل نهائي للملف النووي الإيراني، بعدما أعطي مهلة جديدة، لا بد أن تمتد مفاعيله الى أوضاع المنطقة ودور إيران في إيجاد الحلول، خصوصاً في ملفات العراق وسورية ولبنان، إضافة الى متطلبات الحفاظ على أمن الخليج. وعلى رغم أن الحوار السعودي الإيراني انقطع بعد استئنافه، فإن المأمول أن يستأنف قريباً لإيجاد أرضية مشتركة للتعاون المستقبلي. - التجاوب الفلسطيني الفوري مع المبادرة التاريخية، ما يدل على مدى جديتها وسعيها إلى دعم الشعب الفلسطيني ومواجهة التعنت والصلف الإسرائيلي المتنامي ودرء الأخطار التي تتعرض لها القضية الفلسطينية. وقد عبر عن هذا الدعم الأمير متعب بن عبدالله بن عبد العزيز، وزير الحرس الوطني السعودي، خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن عندما قال إن على الولاياتالمتحدة أن تدرك أن السعودية لا تركز على شأن واحد، وهو محاربة الإرهاب، بل تهتم بقضايا أخرى أهمها القضية الفلسطينية وإحلال السلام العادل وإعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. هذه المؤشرات تدفع إلى التفاؤل وانتظار توالي الجهود الحثيثة خلال الأسابيع القليلة المقبلة ابتداء بالقمة الخليجية المقررة في قطر لتتكثف الجهود خلال القمة العربية المقرر انعقادها في أواخر آذار (مارس) 2015، والتي يأمل الجميع أن تشهد بدايات الانفراج وترسم نهايات الانفجار. والأمل بالله أولاً بأن نشهد مرحلة تعيد بارقة الأمل الى الشعوب المنكوبة وملايين الأطفال والنساء المشردين... عندما يتجاوب الزعماء العرب مع الملك عبدالله، وعندها نتفاءل بالخير لنجده بإذن الله.